أَكرِمْ بِقَومٍ رَسولُ اللَهِ شِيعَتُهمْ
حسان بن ثابت رضي الله عنه
مع منتصف العام التاسع للهجرة، وبعد فتح مكة وغزوة تبوك تدفقت
وفود قبائل العرب على المدينة لتعلن إسلامها، وكان من تلك الوفود وفد تميم. وحينما
برز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد جئنا لنفاخرك فاذن لشاعرنا
وخطيبنا. قال: أذنتُ لخطيبكم فليقل، فقام عطارد بن حاجب فخطب، ولما انتهى قال الرسول
صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجب الرجل. فخطب ثابت. ثم أذن لشاعرهم
الزبرقان بن بدر فبدأ قصيدته بقوله:
نحن الكرام فلا حيٌ يعادلنا
منا الملوك وفينا يُقسم الرُّبُعُ
.. إلى أن بلغ بيته الثامن والأخير:
فمن يقادرنا في ذاك يعرفنا
فيرجع القوم والأخبار تُستمع
ولم يكن حسان في المجلس حين حضر وفد تميم، فبعث إليه الرسول صلى
الله عليه وسلم، فلما حضر سمع قصيدة الزبرقان. حتى إذا ما انتهى منها قال عليه
الصلاة والسلام: قم يا حسان فأجب الرجل. فقام حسان وارتجل قصيدته الخالدة.
قصيدة حسان هذه - في تقديري - أعظم قصيدة مدح في التاريخ، لمزايا
لا تتعلق بالعاطفة رغم وجودها ولله الحمد، تتمتع بها هذه القصيدة دون سواها، وهي:
1. كل بيت في قصيدة حسان بليغ، فيه ما يصلح أن يُدرس
ويستشهد به، بل كل شطر، بل كل كلمة. رغم أنها قصيدة مرتجلة بلا مراء، فقد قالها
حسان على نفس وزن قصيدة الزبرقان وقافيتها ورويها، في ذلك المجلس الذي دخله بعد
القوم.
2. مع عِظم المدح الذي فيها إلا أنها صادقة تماماً لا
تزيد عن حق من قيلت فيه ولا تنقص، وعزَّ أن تصدق قصيدة مدح، فهذه قصيدة بلغت
الذروة في مستحِق.
3. ليست بالقصيرة المقصّرة ولا بالطويلة البائنة، متماسكة
الأجزاء، ريّانة، فتيّة، يعضد بعضها بعضا رغم استقلاله كأعضاء الجسم وتكاملها،
فإذا ما أُدرجت للدرس وضعت بأكملها، لا كغيرها من القصائد التي تقاربها طولا، حيث يؤخذ
بعض ويترك بعض.
4. خالية من المدح بهجاء الخصم، لأن الممدوح أعلى من
أن يحتاج إلى ذلك.
5. أتت بتكليف مباشر من النبي صلى الله عليه وسلم،
الذي سبق أن دعا لناظمها بالتأييد بروح القدس، وأحسب أن اجتماع دعاء النبي لصاحبها
بالتأييد بالوحي، والتكليف منه صلى الله عليه وسلم بنظمها، ولأنه صلى الله عليه
وسلم لا يقول الشعر - وما ينبغي له - فحسّان لسانه لدعوة مَن أتاه متحدياً، فكان
أنْ مَنَّ الله على شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآية البينة المعجزة.
6. أقرَّ الذي أتى متحدياً بجزالتها، وكانت سبباً في تسليمهم
وإسلامهم وهم حي ضخم من أحياء العرب، وليس هذا الفعل الشريف لقصيدة أخرى، حيث قال
الأقرع بن حابس بعدها: وأبي إنّ هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا،
ولشاعره أشعر من شاعرنا..الخ ما قال.
أتشرف هنا بأن أضعها في أتم صورة، محققاً ألفاظها، ومصححاً شرحها،
ومضيفاً عليه:
إِنَّ الذَوائِبَ[1] مِن فِهْرٍ وَإِخوَتِهِمْ[2]
قَد بَيَّنوا سُنَّةً[3] لِلناسِ تُتَّبَعُ
يَرضى بِها كُلُّ مَن كانَت سَريرَتُهُ
تَقوى الإِلَهِ، وَبِالأَمرِ الَّذي شَرَعوا
قَومٌ إِذا حارَبوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ
أَو حاوَلوا النَفعَ في أَشياعِهِم نَفَعوا
سَجِيَّةٌ تِلكَ مِنهُم غَيرُ مُحدَثَةٍ
إِنَّ الخَلائِقَ[4] فاعلمْ[5] شَرُّها البِدَعُ
لا يَرْقَعُ الناسُ ما أَوهَتْ أَكُفُّهُمُ
عِندَ الدِفاعِ، وَلا يُوهُونَ[6] ما رَقَعوا
إِنْ سابَقوا الناسَ يَوماً فازَ سَبقُهُمُ
أَو وازَنوا أَهلَ مَجدٍ بِالنَدى[7] مَتَعوا[8]
إِنْ كانَ في الناسِ سَبّاقونَ بَعدَهُمُ
فَكُلُّ سَبْقٍ لِأَدنى سَبْقِهِم تَبَعُ
وَلا يَضِنّونَ[9] عَن مَولىً بِفَضلِهِمِ
وَلا يُصيبُهُمُ في مَطمَعٍ طَبَعُ[10]
لا يَجهَلونَ، وَإِنْ حاوَلتَ جَهلَهُمُ،
في فَضلِ أَحلامِهِم عَن ذاكَ مُتَّسعُ
أَعِفَّةٌ، ذُكِرَت في الوَحيِ عِفَّتهُم
لا يَطبَعونَ،[11] وَلا يُرديهِمُ الطَمَعُ
كَم مِن صَديقٍ لَهُم نالوا كَرامَتَهُ
وَمِن عَدُوٍّ عَلَيهِم جاهِدٍ جَدَعُوا[12]
أَعطَوا نَبِيَّ الهُدى وَالبِرِّ طاعَتَهُم
فَما وَنى[13] نَصرُهُم عَنهُ وَما نَزَعوا
إِنْ قالَ سِيروا، أَجَدُّوا[14] السَيرَ جَهْدَهُمُ[15]
أَو قالَ عُوجوا[16] عَلَينا ساعَةً، رَبَعوا[17]
ما زالَ سَيرُهُمُ حَتّى اِستَقادَ[18] لَهُم
أَهلُ الصَليبِ، وَمَن كانَت لَهُ البِيَعُ[19]
خُذْ مِنهُمُ ما أَتى عَفواً[20] إِذا غَضِبوا
وَلا يَكُن هَمُّكَ الأَمْرَ الَّذي مَنَعوا
فَإِنَّ في حَربِهِم - فَاترُك عَداوَتُهُم-
شَرّاً يُخاضُ، عَلَيهِ الصابُ وَالسَلَعُ[21]
نَسمو إِذا الحَربُ نالَتنا مَخالِبُها
إِذا الزَعانِفُ[22] مِن أَظفارِها خَشَعوا
لا فَخْرَ إِنْ هُمْ أَصابوا مِن عَدُوِّهِمُ
وَإِنْ أُصيبوا فَلا خُورٌ وَلا جُزُعُ[23]
كَأَنَّهم في الوَغى وَالمَوتُ مُكتَنِعٌ[24]
آسادُ بيشَةَ[25] في أَرساغِها فَدَعُ[26]
إِذا نَصَبنا لِقَومٍ لا نَدِبُّ لَهُم
كَما يَدِبُّ إِلى الوَحشِيَّةِ الذُرُعُ[27]
أَكرِمْ بِقَومٍ رَسولُ اللَهِ شِيعَتُهمْ
إِذا تَفَرَّقَتِ الأَهواءُ وَالشِيَعُ
أَهدَى لَهُم مِدَحي قَلبٌ يُؤازِرُهُ
فيما يُحِبُّ لِسانٌ حائِكٌ صَنَعُ[28]
فَإِنَّهمْ أَفضَلُ الأَحياءِ[29] كُلِّهِمِ
إِنْ جَدَّ بِالناسِ جِدُّ القَولِ أَو شَمَعوا[30]
تمت، والحمد لله رب العالمين[31]
[1] الذُّؤَابةُ: النَّاصِيةُ لنَوَسانِها؛
وقيل: الذُّؤَابةُ مَنْبِتُ الناصيةِ من الرأْس، والجَمْعُ الذَّوائِبُ، ويراد هنا تشبيهاً أشراف الناس
وخيرتهم.
[2] فِهر أَصل قريش وهو فِهْرُ بن غالب، ويرمز به إلى المهاجرين، وأما
إخوتهم فالأنصار.
[3] السنّة الطريقة.
[4] الخلائق جمع خَلِيقة
وهي الطَّبِيعية
التي يُخلَق بها الإِنسان.
[5] ويروى (حقاً).
[6] أوهى: خَرَق.
[7] الندى: الغاية والجود.
[8] متعوا ارتفعوا وبلغوا الغاية
ومنه مَتَعَ النهارُ يَمْتَعُ مُتُوعاً:
ارْتَفَعَ وبَلَغَ غايةَ ارْتفاعِه. هذا البيت موجود في نسخة ديوان حسان التي
صححها وليد عرفات، دار صادر، بيروت، 1974، وموجود في سيرة ابن هشام، والبداية
والنهاية، والكامل في التاريخ، وتاج العروس، ولكنه لا يوجد في ديوان حسان نسخة مطبعة
دار السعادة، بمصر 1331هـ، ولا الطبعة الثانية لدار الكتب العلمية ببيروت، 1994.
[9] لا يضنون: لا يبخلون.
[10] الطبَعُ الدنس
والعيب.
[11] لا يدنّسون أعراضهم. يقال فلانٌ يَطْبَعُ: إذا لم
يكنْ له نَفاذٌ في مَكارِمِ الأُمُورِ، كما يَطْبَعُ السيفُ إذا كثُر الصَّدَأُ عليه.
وهو طَبِعٌ طَمِعٌ،
ككتِفٍ: دَنِيءُ الخُلُقِ لَئِيمُهُ، دَنِسٌ لا يَسْتَحْيِي من سَوْأةٍ.وفي بعض
النسخ (يطمعون) وهذه الرواية كما في (أنوار الربيع) وغيره، أنسب لتكامل المعنى مع
ما بعدها في البيت وللبعد عن التضاد، ولتناسب (ولا يصيبهم في مطمع طبع).
[12] الجَدْع القَطْع.
[13] ونى: فَتَرَ وضَعُف.
[14] أَجَدَّ فهو مُجِدٌّ غير متكاسل ولا متوانٍ. وأصله من
عُلوِّ جَديدِ الأَرض وركوب جَدَدِ الرمل، لا يفعله إلا مذروب.
[15] الجَهْد والجُهْد الطاقة.
[16] عاج انعطف. والمراد شدة الانقياد لأوامره صلى
الله عليه وسلم.
[17] رَبَعَ، وَقَفَ وانْتَظَرَ، وَتَحَبَّسَ، ومنه
قولُهم: ارْبَعْ عَلَيْكَ،
أو على نفسِكَ.
[18] المستقيد المنقاد.
[19] البِيَع جمعة بِيعة كنيس اليهود.
[20] أي بغير مسألة.
[21] الصّاب والسّلع: ضربان من الشجر مُرّان
يعبّر بهما عن التسمم. فالسلع سَم. وإذا وقعت قطرة من عصارة الصاب في العين فكأنها
النار. قال أَبو ذُؤَيب الهُذَلي: إِني أَرِقْتُ فبِتُّ الليلَ مُشْتَجِراً *
كأَنَّ عَيْنِـيَ فيها الصّابُ مَذْبُوحُ
[22] زعانف الناس سوقتهم، الأباعد عن الأصل.
[23] جمع خائر وجازع، ويجوز: فلا
خَورٌ ولا جَزَعُ. أي فلا يصيبهم ذلك.
[24] كَنَعَتِ العُقابُ وأَكْنَعَت: جمعت جَناحَيْها
للانْقِضاضِ وضَمَّتهما.
[25] بِيشَة: مأسدة بطريق اليمامة. وهذه الرواية
من التذكرة الحمدونية، ويروى: أسدٌ ببيشة.
[26] فَدَع: انحناء في مفاصل رسغ الأسد خِلقةً، سِمة قوة لتمكينها من الانقضاض والبطش. والفَدْع من الكلمات التي لا تزال متداولة في دارج الكلام للتعبير عن تعويج المستقيم وحتى كسره.
[27] الذُّرُع جمع ذريعةُ السبب الموصل لكل شيء
وأصله الجمل أو ما يستتر به للقنص؛ قيل: وللمَنِيَّةِ أَسْبابٌ تُقَرِّبها .. كما
تُقَرِّب للوَحْشِيَّة الذُّرُع.
[28] الصَنَع الحاذق يقال هو صَنَع اليدين وصِنْع
وصنيع.
[29] الأحياء جمع حي وهو المجتمع البشري، والحَيُّ
كذلك البطن من بطون العرب، وبهذا الإحكام ختم الرد بما بدأ الزبرقان الفخر به.
[30] الشَّمَع عكس الجِد من هزل أو نحوه.
[31] تحقيق وشرح عبدالله بن حمدان بن حمود الإسماعيلي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق