الأحد، 19 يونيو 2022

عند التعارض، أيهما أولى بالحفظ؛ وحدة الأمة الإسلامية أو التوافق العقدي في المسائل الخلافية بين المسلمين؟

 

عند التعارض، أيهما أولى بالحفظ؛ وحدة الأمة الإسلامية أو التوافق العقدي في المسائل الخلافية بين المسلمين؟

 

الحمد لله رب العالمين، البر الرحيم، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد رسول الله الأمين ﷺ، أما بعد فإن اتفاق المعتقد إن كان في قضية هي من المعلوم من الدين بالضرورة كأركان الإيمان وأركان الإسلام ووحدانية الله وتفرده بالأسماء الحسنى من غير ند ولا شريك، وختم النبي محمد ﷺ للرسالة السماوية، وأن القرآن حق لا يتبدل، وأمثال هذه القضايا الأساسية التي لا خلاف عليها بين الأمة الإسلامية، فهذه بلا شك لها الصدارة، لأن منكر شيء منها كافر، ليس من أمة الإسلام، سواء أكان فرداً أم جماعة.

 

أما ما دون ذلك من القضايا التي هي محل خلاف بين علماء المسلمين، وأدلتها تتفاوت فيها الآراء بين أهل الاجتهاد، فتشعبت على أساسها مذاهب المسلمين، وأصبحت مع الزمن تدرس ضمن مناهج العقيدة، كخلق القرآن، ورؤية الله، وخلود الفاسق في النار، فوحدة الأمة عند التعارض وبروز الشقاق بسببها مقدمة عليها، لأن الحفاظ على وحدة الأمة وترك التحزب فرض واجب، منصوص عليه صراحة في القرآن الكريم والسنة النبوية، بينما الخلاف في هذه القضايا ليس سوى مسائل نظر واجتهاد، وليس أدل على هامشيتها من حقيقة كونها لم تكن قضايا مطروحة أصلاً في عصر النبوة وصدر الإسلام، والإسلام تام قبل وفاة النبي ﷺ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة:3).

 

أما اتحاد كلمة المسلمين والمحبة بينهم ونبذ دواعي التفرق فهذه قضية جوهرية في الإسلام، لا تساهل فيها، وأدلتها مستفيضة، ومن ذلك قول الحق سبحانه وتعالى:  ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (سورة آل عمران: 103).

وقوله سبحانه وتعالى:  ﴿إِنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا لَستَ مِنهُم في شَيءٍ إِنَّما أَمرُهُم إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِما كانوا يَفعَلونَ﴾(الأنعام: ١٥٩)

وقوله سبحانه وتعالى:  ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة الأنفال: 46).

وقوله سبحانه وتعالى:  ﴿َوقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} (الإسراء: 53).

وقوله سبحانه وتعالى:  ﴿مُنيبينَ إِلَيهِ وَاتَّقوهُ وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكونوا مِنَ المُشرِكينَ. مِنَ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا كُلُّ حِزبٍبِما لَدَيهِم فَرِحونَ﴾ (الروم: ٣١-٣٢)

وقوله سبحانه وتعالى:  ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (سورة الشورى: 13).

وقوله سبحانه وتعالى:  ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات:١٠).

وقوله سبحانه وتعالى:  ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر: 10)

هذا وقد نعى القرآن الكريم على أهل الكتاب تفرقهم من بعد ما جاءهم العلم، والواجب أن يكون سببَ ائتلاف بينهم ومودة فقال ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ (الجاثية:17)، ودعاهم إلى التسليم بقضايا أساسية محددة لا ينبغي الاختلاف عليها مع أهل الإسلام فينبذ بعدها التنازع فقال ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64)، ولو سلّموا بهذه الأساسيات السهلة لأتينا وإياهم إلى كلمة سواء أي توافق عادل منصف! فكيف بإخوان لك يسلمون بكل هذا ويسلمون بكل شريعة الإسلام يُصَلّون صلاتنا ويصومون صومنا ويحجون حجنا ويزكون زكاتنا وليس لهم كتاب سماوي إلا القرآن وليس لهم رسول إلا محمد ﷺ خاتماً للأنبياء والمرسلين، ولكنهم يخالفونك فقط في فهم بعض النصوص، ولا يريدون بذلك الكفر وإنما مبتغاهم الإحسان في طاعة الله، ألا ترى لهم الأخوّة الإسلامية الكاملة؟!  

 

وأما السنة النبوية فسيرة النبي ﷺ كلها خير شاهد على بناء هذه الوحدة الإسلامية وحفظها ودفع الاختلاف ومنع الشقاق والتنازع والتقاتل حتى امتن الله على نبيه بتلك الرحمة التي جمع بها قلوب المؤمنين من حوله فقال له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ  فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)

وقد اهتم النبي ﷺ كلَّ الاهتمام في بيان الأهمية القصوى لهذه الوحدة الإسلامية وتقديمها ولزوم الجماعة ونبذ مايؤدي إلى التفرق، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يَرضى لكم ثلاثاً، ويَكره لكم ثلاثا، فيَرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويَكره لكم: قيلَ وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال). رواه مسلم

ويقول ﷺ: (مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفِهم وتراحمِهم، كمثل الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمى) رواه مسلم

ويقول ﷺ: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة). رواه الترمذي.

ويقول ﷺ: (مَن أتاكُم، وأمركُمُ جميعٌ على رجلٍ واحدٍ، يُريدُ أن يَشُقَّ عصاكم، أو يُفَرِّقَ جماعتكُم، فاقتُلوهُ) رواه مسلم.

ويقول ﷺ: (يدُ اللهِ مع الجماعةِ) رواه الترمذي.

ويقول ﷺ: (اسْتوُوا ولا تختلِفوا فتختلفَ قلوبُكم) رواه مسلم.

ويقول ﷺ عن دعوى التفرق: (دعُوها فإنّها مُنتِنةٌ) متفق عليه.

ويقول ﷺ عن المسلمين: (تتكافأُ دماؤهم، وهم يدٌ على مَن سِواهم) رواه ابن ماجة.

ويقول ﷺ: (عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ) رواه الترمذي.

وكان مما يكرره النبي صلى الله في المجامع العظيمة، قوله: (لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا. المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هاهُنا. ويُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ. كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ) رواه البخاري ومسلم. كرر ذلك في حجة الوداع يوم النحر، ويوم عرفة، واليوم الثاني من أيام التشريق. فهذه آخر وصيته لنا ولولا أهميتها البالغة ما كررها، فإن أدى الاختلاف بين المسلمين إلى السباب والتقاتل فينبغي تركه، وتبقى مسائل الاجتهاد لأهلها لا يُجيّش فيها العامة ولا يورط المسلم نفسه فيما له عنه غنى، لأن (سِباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) بنص الحديث وهو في البخاري ومسلم، وفيهما أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، وزاد البخاري: قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (لأنه كان حريصًا على قَتل صاحبِه)، وكان من آخر وصيته لنا في خطبة الوداع، كما في البخاري ومسلم أيضا: (لا تَرجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضُكم رقاب بعضٍ)، ويكفي رادعاً قول الحق ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 105) فكل خلاف بعد تمام الدين بما يؤدي إلى الشقاق بين المسلمين هو من هذا الباب، مهما حاول أنصار التشرذم التبرير، بدليل أن السكوت عنه لا يهدم الدين بل يقويه، ويمكن للمسلم دخول الجنة وهو بقضايا الخلاف المذهبي جاهل تماماً، فعلى المسلم أن لا يستجيب لداعي الفتنة والتفرق بين المسلمين، فإن وقعت فتنة في الدين فعليه الالتزام بوصية النبي ﷺ لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهي في الصحيحين: (تكونُ دعاةٌ على أبوابِ جهنمَ، مَنْ أجابَهم إليها قذفوه فيها، هم قومٌ مِنْ جِلْدَتِنا، يَتَكَلَّمُونَ بألسنتِنا، فالزمَ جماعَةَ المسلمينَ وإمامَهم، فإِنْ لم تَكُنْ جماعَةٌ ولَا إمامٌ فاعتزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها، ولَو أنْ تَعَضَّ بأصلِ شجَرَةٍ حتى يُدْرِكَكَ الموتُ وأنتَ كذلِكَ).


هذا والله أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ع ح

1 .0

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطبة عيد الأضحى 1446

  خطبة عيد الأضحى 1446  (تنبيه: العيد وافق جمعة ففي الخطبة فقرة بهذا) الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله ...