الثلاثاء، 27 أبريل 2021

قول في الاستغفار والترحم على موتى المسلمين عامة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قول في الاستغفار والترحم على موتى المسلمين عامة

 

الحمد لله الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل، والصلاة والسلام على رسول الله الذي قال عنه ربه (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)

أما بعد

 

فهذه أدلة على جواز الترحم على كل من مات مسلماً ولم يأت بما يخرجه من ملة الإسلام، ولم يكن مجاهراً بمعصية:

 

1/ سنة النبي محمد في التعامل مع المنافقين. فبعد أن نزلت (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) لم يأمر النبي غيرَه بترك الصلاة على المنافقين، ولم يخبرهم بأسماء هؤلاء حتى يمتنعوا عن الترحم عليهم والاستغفار لهم، فإن كان تأخير البيان عن وقت الحاجة غيرَ جائز، فكيف بتركه البتة؟ سيكون هذا تقصيراً في التبليغ - والعياذ بالله- وهو ممتنع لا تصح نسبته إلى رسول الله بحال من الأحوال. فهؤلاء قوم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون بنص القرآن، ولكن لأنهم تستروا برداء الإسلام، لم يؤمر غيرُ رسول الله - المتصلِ بعالم الغيب - بترك الصلاة عليهم. فإن كان هذا هو التصرف مع منافق العقيدة فكيف أحرم من لا أعلم عليه نفاقاً عقديا وإنما ارتكابه لخطيئة مع إسلامه وحبه لله ولرسوله وللمؤمنين؟ بل كيف أحرم منه من لا أعلم منه غير الإسلام؟!

 

2/ وجوب الصلاة على كل ميت مسلم. وحقيقة الصلاة الدعاء، وحكمة الصلاة على الجنازة طلب المغفرة والرحمة لهذا الميت، ولا دليل من قرآن أو سنة أو حتى عقل على تفريغها من هذه الحكمة البالغة أو  ترك الدعاء للميت أثناء الصلاة عليه، بل جاء (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) أي اجتهدوا في الدعاء له ولا تشوبوا هذه الصلاة المخصوصة له بالدعاء لغيره، ولو كان ترك الدعاء للميت مَخرجاً، لأمر اللهُ رسولَه بذلك لتستمر صلاته عليه الصلاة والسلام على المنافقين، فهو لا يريد فضحهم، ولهذا لم يعلن أسماءهم، ولو كان ذلك مشروعاً لأمر الرسولُ الصحابةَ به عند صلاتهم على المنافقين وأهل الموبقات، بعد منعه هو من الصلاة على المنافقين، ولكنه لم يفعل. إنّ مجرد الصلاة على الميت استغفارٌ له وترحم عليه، وكفى بها حجة وبرهانا.

 

3/ مشروعية الحج عن من مات وعليه حج. لحديث (حج عن أبيك واعتمر) وحديث (حج عن نفسك ثم حج عن شُبْرُمة) ولم يسأل عن حال أبي الرجل أو حال شبرمة. فما حقيقة الحج؟ (الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة) هذه حقيقة الحج، عبادة بصفة مخصوصة يرجى لصاحبها أن يتوب الله عليه ويغفر له ويرحمه ويدخله الجنة. ولا يصلح أن يقال بأن الحاج عن ميت ما - يظن بأنه غير صالح - عليه أن لا يستغفر الله له ويترحم عليه. بل إن طلب المغفرة لا تكون إلا لمخطيء، وكل ابن آدم خطّاء، وهذا باب عظيم لطلب المتاب عن المسلم.

 

4/ انتفاع الميت المسلم بالدعاء. لحديث (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) هنا ترى أن الابن الصالح عملٌ صالح مستمر للإنسان، فكيف يُحرم الميت من حقٍ شرعي له، تتمثل في دعوة ابنه له بالمغفرة والرحمة وتصدقه عنه وصومه وحجه؟ وذكر الابن هنا لشدة اهتمامه بهذا أكثر من غيره، فلا يفهم منه عدم جواز غيره فعل ذلك أيضا، بل هو من الخير والفضل والأجر للطرفين، الداعي والمدعو له، ففي الحديث (ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك الموكل: آمين ولك بمثله). وظهر الغيب يشمل الحياة والممات. والدعاء للميت المسلم سنة مؤكدة عن رسول الرحمة محمد ولم يخبرنا عند الدعاء بها أن نخص بها مسلماً ونحرم آخر بسبب معصية أو ظن منا، فقد كان النبي إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال (استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل) ولم يرد تخصيص لمواصفات معينة ينبغي توفرها في هذا الميت المسلم ليستحق هذا الخير، ومثله عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله قال في الدعاء لميت (اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقِهِ من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه فأنت الغفور الرحيم)، وروي عن عوف بن مالك قال سمعت رسول الله يقول في جنازة (اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار.) وعن مالك بن أنس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه أنه سأل أبا هريرة: كيف تصلي على الجنازة فقال أبو هريرة أنا لعمر الله أخبرك أتبعها من أهلها فإذا وضعت كبرت وحمدت الله وصليت على نبيه ثم أقول: (اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده) فتأمل كيف فوض أمر الخفايا لله واجتهد هو في الدعاء للميت.

 

وهذا باب تفضل الله به على عباده المؤمنين، فالكافر هو الوحيد المبسل بعمله بينما المسلم الموحد يتفضل الله عليه بتوسعة أبواب الأجر والمثوبة والفضل، وإلا فلا أحد يدخل الجنة بعمله، (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم)، فلا تحرم من هذا الفضل مسلماً تستطيع أن تنقذه من عذاب الله أو ترفع درجته عند ربه، فهذا من صالح عملك الذي تتقرب به إلى ربك. ومن ذلك أن الإنسان يستطيع إسقاط حق نفسه عن أخيه الميت إن كان له عليه حق فيدعو ربه: اللهم اغفر له.

 

5/ انتفاع الميت بصدقة من يتصدق عنه، أو يصوم عنه، أو يحج عنه، أو يعتمر عنه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله، إن أمي تُوفِّيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعُها إن تصدَّقْتُ عنها؟ قال: (نعم)، قال: فإني أشهدُك أن حائطي المخراف صدقةٌ عنها)، وحديث (مَن مات وعليه صوم، صام عنه وَلِيُّه)، وقد  أتت النبي امرأة فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج، قال: (حجي عن أمك)، وقوله   لعمرو بن العاص (أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك). مقصد هذه الأعمال كلها إنقاذ الإنسان من النار والفوز بالجنة ورفع درجته بها.

 

6/ قاعدة اليقين لا يزول بالشك. اليقين في هذه الحالة هو يقيننا بدخول هذا المسلم في الإسلام، والشك هو جودة ما أتى به في إسلامه. فإسلامه مثلاً كافٍ لمشروعية أداء الحج عنه كما أسلفنا، بغضِّ النظر عما جاء به من أعمال في إسلامه، والحج طلب لنيل رضوان الله ومغفرته ورحمته، فإن صحّ هذا في الحج صحّ في ما هو دونه لزاماً كالصلاة عليه.

من المعلوم أن دخول الإنسان في الولاية سهل إذ لا يحتاج سوى نطقه بالشهادتين، ومن أتى بهما ثبتت له حقوق المسلم كاملة، أما خروجه من الولاية إلى البراءة فهذا أمر صعب، تقديراً لقدسية الشهادتين، وحفظاً لوحدة صف المسلمين، لذا قد يحتاج الحكم فيه - عند الإضطرار لإصدار حكم - إلى قضاء شرعي ومساءلة، وتأكدٍ من سلامة عقله وفهمه وعدم وقوعه تحت اضطرار، وقد يحتاج إلى شهود عدول وسلسلة من الإجراءات التي لا تتوفر إلا لجهة شرعية مقتدرة.

بينما المسلم مأمور بحفظ قاعدة اليقين حتى لا يكون ريشة في مهب الأهواء، لذا هو مأمور بالستر وحسن الظن بالمسلمين وغض البصر وعدم تتبع العورات، والبعد عن الغيبة والنميمة والبهتان، فهذا كله من طاعة الله، وأي اتهام لمسلم بجناية أو فسوق إن لم يأت صاحبها بالبينات الشرعية أمام قضاء شرعي فهو آثم ومجرّم وقد لا تُقبل شهادته أبدا، ولو رأى بعينه وسمع بأذنه. ففي غير المعلوم من الدين بالضرورة لا ينبغي للمسلم أن يورط نفسه في متاهات التفسيق ومهالكه، تاركاً طريق اليقين اللاحب، يقول أسامة بن زيد (بعثَنا رسولُ اللَّهِ سريَّةً إلى الحُرقاتِ فنَذروا بنا فَهَربوا فأدرَكْنا رجلًا فلمَّا غشيناهُ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فضَربناهُ حتَّى قتلناهُ فذَكَرتُهُ للنَّبيِّ فقالَ: من لَكَ بِلا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يومَ القيامةِ فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّما قالَها مَخافةَ السِّلاحِ. قالَ: أفلا شقَقتَ عن قلبِهِ حتَّى تعلمَ مِن أجلِ ذلِكَ قالَها أم لا؟ مَن لَكَ بلا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يومَ القيامةِ؟ فما زالَ يقولُها حتَّى وَدِدْتُ أنِّي لم أُسلِم إلَّا يومئذٍ).

 

7/ الأمر بالستر وعدم تتبع العورات. ففي الحديث (من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة)، وقوله (يا معشرَ مَنْ آمَنَ بلسانه، ولم يدخُل الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم؛ فإنَّه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورتَه، ومَنْ تتبَّع اللهُ عورتَه يفضحه ولو في جوف بيته). ومن المقرر عند جمهور المسلمين أنّ المسلم الذي يصدر منه شيء يحتمل الكفر لا يؤاخذ به حتّى يُتَقَدّم له، ويعرّف بما صدر منه، ويُعذَر إليه، فإن أصرَّ عليه يؤاخذ به، ثم يستتيبه ولي الأمر. والمسلم غير مطالب بالحكم على جودة ايمان أخيه المؤمن، بل إن غالب المعاصي ليس عليها حدود شرعية يؤدَب بها الناس، وإنما أمرها موكول إلى الله وحده، وسهّل سبحانه وتعالى التوبة منها، وقد شُددت الإجراءات جداً في التبليغ عن المعاصي التي عليها حدود حتى أصبحت الشهادة عليها مخاطرة شديدة، كشهادة الزنا مثلاً؛ فسلامة ظهر الشاهد موكولة إلى سلامة شهادة الشهود الثلاثة الآخرين، لأنه إذا تراجع أحد الأربعة عن شهادته أو لم يأت بها على وجهها - وهذا وارد جداً بسبب شدة التحقيق ولرغبة الشرع في درء الحدود ما وجد مدخل شرعي - كانت النتيجة قاسية جداً على الشهود من جلد ثمانين وإسقاط قيمتهم بين الناس بإسقاط شهادتهم مستقبلاً. لذا إن انتشرت سياسة الدين في هذا القائمة على الستر وعدم تتبع العورات وامتنعت الغيبة والنميمة والبهتان فلن يظهر في المجتمع من ينبغي البراءة منه غير مرتد ناقض لإسلامه أو مجاهر بمعاصيه مستحل لمحارم الله، وهؤلاء تجب البراءة منهم.

 

هل القول بجواز الترحم على كل مسلم يفسد المجتمع ويجريء الناس على معاصي الله؟

 

البراءة واجبة ممن نقض إسلامه برِدة لم يتب منها، أو اشتهر بفسوقه وعصيانه وايذائه المؤمنين واستهتاره بمحارم الله وأركان الدين ولا يرعوي لنصح ناصح ومات مصراً على فجوره مجاهراً بفواحشه، ففي الحديث المتفق عليه (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يُصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه). هؤلاء نقيم عليهم حكم كتاب الله بالبراءة منهم كما في الحديث (فإنه من يُبدي لنا صفحتَه نُقِمْ عليه كتاب الله)، أما بقية المسلمين فهم على أصل الولاية المكتسبة منذ نطقهم بالشهادتين، ونحسن الظن بهم، فكيف بمن اشتهر بالتزامه بأركان الدين ولكنه يقصّر ويتعثّر ويخطيء، وقد تنتهي حياته قبل أن يتطهر من بعض خطيئاته، خلال مقاربته وتسديده وفق قول المصطفى (قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله،  قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قالولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، فلا ينبغي لز المؤمن المقصر مع المجرمين الفاسقين.

 

نعم من باب الزجر عن ارتكاب الموبقات قد يتنزه العالم الكبير المنظور إليه عن حضور الصلاة على الفاسق المشتهر بفسوقه ومعاصيه وارتكابه الكبائر، ولكن هذا لا يطالب به العامة. السُّنَّة في هذا هدي النبي في التصرف مع من مات منافقاً فلم يأمر غيره بترك الصلاة عليه والدعاء له، لما يجره ذلك من سوء تطبيق، وشقاق بين المسلمين وتنافر وتباغض، مع أن حق المنافقين ألا يدفنوا في مقابر المسلمين لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون، إلا أن تآلف المسلمين وتراص صفهم وتآخيهم مطلب عظيم يقدم على غيره، وبسببه لم يقاتل الرسول المنافقين ولم يشهّر بهم، فكيف بترك الترحم والاستغفار على من تعلم إسلامه يقيناً ولكن ليس لديك "تقرير استخباري" عن حاله؟ أتترك اليقين وهو إسلام أخيك إلى سوء الظن به؟! الأصل في المسلم الإسلام، والأصل في المؤمن الإيمان.

 

البراءة من المشركين كافة وتولي المسلمين كافة هو ما يقوي المجتمع، ويدفعه للصلاح والبر والإنابة إلى الله، لا التجسس على أفرادهم والتوقف عن الدعاء بخير الآخرة لمجهول الحال منهم. المرحمة لا تفرّق الناس وإنما يفرقهم الشدة والتجسس والنبذ، وإن وقع منك خطأ في الاستغفار لغير مستحق وطلب العفو عنه فالخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وما أعظمها من عقوبة حرمانك أخيك المسلم من دعائك له بخير الآخرة لمجرد ظنك إنه قد يكون اقترف سيئة في إسلامه وأنت لا تعرف عنها.

 

وهذا لا يتعارض مع تعليم الناس أنهم مؤاخذون عند الله بما اكتسبوا، ولا ينفع المنافق تستره باسم الدين، ولكننا هنا في هذه الحياة نعامل كل من تسمى باسم الإسلام في هذا الشأن معاملة المسلم، ونكل أمره إلى الله، لأننا لا نعلم حقيقة ما في القلوب وإنابة من ينيب، وتوبة الله على من يشاء (والله أعلم بإيمانكم، بعضكم من بعض)، فنسير على المنهج الذي رسمه لنا كتاب الله وسنة رسول الله وهو احتواء الجميع في بوتقة واحدة، بوتقة الإسلام بكل حقوقه، ونفوض الغيب لله، ولا نسمع في بعضنا البعض قالة السوء وفق قاعدة (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا)، فإذا ما أتينا يوم القيامة وبانت الحقائق، كان المنافق مع الكفار والمشركين، ولا نشفع حينها إلا لمن ارتضى ربنا سبحانه وتعالى.


مناقشة أدلة البراءة من المسلمين المقصرين

 

الوقوف عن الاستغفار والترحم على الميت المسلم الذي لم نعلم عنه سوى فضيلة نطقه بالشهادتين لا دليل عليه من قرآن ولا سنة، والأصل تعظيم الإسلام وعدم حمل المسلم على سوء الظن، وحرمان أخيك من الترحم عليه والاستغفار له من أعظم البخل وسوء الظن، وهو نقصان في دين فاعله وإن ظن بمغالاته التحرز في الدين.

 

ومن يتوقف عن الدعاء لميت المسلمين الذي لا يعرفه - لو طبّق قاعدته بإنصاف - فلن يبقى له من يتولاه حقيقة غير نفسه، فأبوك لا تعلم حقيقة ما في قلبه إن كان به ذرة من كبر، وفي الحديث (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وابنك الذي ربيته لا تعلم إن كان عندما يخلو ينتهك شيئاً من محارم الله أو هو شاك في حقيقة الله ولكنه ينافقك خوفاً منك. والأصل حمل المسلمين على خير محمل إلا الآتي بما ينقض الإسلام كالردة، والمجاهر بفسوقه غير التائب منها.

 

إنّ نموذج التوقف الشرعي الذي ينبغي احتذاؤه هو ذلك الذي خطه الخليفة عمر بن عبدالعزيز للوقوف عن التلاعن والتباغض والبراءة بين الأمة بعد فتنة الصحابة، فخرج عمر بتوجيه "تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا" وفق قول الحق (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون)، فاستل الأحقاد وألف بين القلوب.

 

أما الأدلة التي يستدل بها على حرمان المسلم الذي خلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً من الاستغفار والترحم فهي استدلالات في غير محلها،

-          فقول الحق في ابن نوح (إنه عمل غير صالح) هذه ليست أي معصية وإنما كفر بواح بالدين ومعصية للرسول، فعندما أمره النبي بالانحياز إلى فئة المؤمنين بركوب السفينة وترك حزب الكافرين قائلاً (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) أبى وكابر وهو يرى الآيات (وهي تجري بهم في موج كالجبال) وأبوه ينذره من عاقبة فعله قائلا (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) فأصر وترك حزب الإسلام وانحاز إلى حزب الكافرين الذين يعلم بسخريتهم من النبي وسفينته، فأي كفر أوضح من فعله هذا؟ إنّ مجرد عدم ركوب السفينة بعد هذا البيان عمل غير صالح وردة عن الدين لو كان آمن من قبل.

-          وقول الحق (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) مثل ذلك فالهجرة التي ابتلي بها الأنبياء وأصحابهم في مختلف الأمم هي ترك لمعسكر الكفر الذي لا يستطيع المسلم فيه ممارسة شعائر دينه، وانحياز إلى معسكر الإيمان حيث يستطيع عبادة ربه، ويقوي شوكة المؤمنين ويجاهد أعداء الله الكافرين، فالممتنع عن الهجرة قادراً كالمتولي يوم الزحف سواء، والهجرة مانعة النفاق، ولهذا قال الحق (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) واستثنى المستضعفين. والهجرة فريضة على كل قادر ولم تسقط إلا بفتح مكة، ومع كل ذلك لم يسقط الله حقهم في المناصرة فقال (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) ولعظم أمر الهجرة قال النبي (لكنِ البائس سعد بن خولة[1]).

-          وقول الحق (فإن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) هذه فئة عرّفها الله بقوله (يستأذنونك وهم أغنياء) فأفشى أخبارهم الغامضة التي كانت غيباً علينا (قد نبأنا الله من أخباركم) فخرجوا من الستر إلى العلن وظهر كفرهم وعداؤهم، فاستطعنا الحكم بمصيرهم الأخروي والبراءة منهم في الدنيا، ولا شك أن التقي هو ولي المؤمنين، وأن الفاسق عدوهم ولو أظهر الإسلام، متى ما تبينت الحقائق، كالحال مع هذه الفئة التي فضحها الوحي، ولكن لا نستطيع حمل غيرهم عليهم بمجرد ظنوننا وتأويلاتنا، فالأصل حمل المسلمين على حسن الظن، والتشدد الكبير في قبول الأخبار عن الناس عامة والمسلمين خاصة. وهناك قضية مهمة، وهي قضية الأسماء والأحكام، فإذا وُسم كل مقصّر بالنفاق العملي، ودخل تحت مسمى الفسوق شمله حكم الفاسق، وتساوى عندئذ المقصّر في العمل، مع هذا الفاسق المعني في الآية.

-          وكذلك (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) فهذا مشرك لا يؤمن بالله، فلا يحكم على من نطق بالشهادتين حكم الكفار والمشركين. وفي قول الحق (تبيّن له أنه عدو لله) فصل في المقال لأن المسلم المرتكب لبعض النواهي مع إتيانه بأركان الإسلام لم يتبين لنا انه عدو لله بل هو للرحمة أقرب.

-          وأما حكم البراءة من الثلاثة الذي خلفوا حتى تابوا فهذا لو تأملته لرأيته حكماً خاصاً بهؤلاء الثلاثة لم يطبقه الرسول على غيرهم لا ممن هو مثلهم في الصدق ولا حتى في المنافقين، وهؤلاء الثلاثة من صلحاء الصحابة ويكفيهم من ذلك نزاهتهم عن الكذب وغش الرسول ، (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون). وممارسة هذا من غير ولي الأمر وضع للشيء في غير محله، فمن تتبرأ منه يستغني عنك وأنت لا سلطان لك عليه، فلا يقود إلا إلى تشرذم، والأصل احتواء إخوتك المؤمنين وتأليف قلوبهم، ودوام التناصح، كما فعل نبي الرحمة مع حاطب بن أبي بلتعة وغيره، مهتدياً بقول الحق (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) وهدي نبيه القائل (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)، (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه)، وقد (أُتي النبي برجل قد شرب، قال: اضربوه، فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) . وفي رواية: (ثم أمرهم فبكَّتوه فقالوا: ألا تستحي مع رسول الله تصنع هذا؟ ثم أرسله، فلما أدبر وقع القوم يدعون عليه ويسبونه، يقول القائل: اللهم أخزه اللهم العنه، فقال رسول الله  : لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا: اللهم اغفر له اللهم ارحمه) ، وحديث آخر نحوه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنَّ رجلاً كان على عهد النبي كان اسمه عبدالله، وكان يُلَقَّب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله وكان النبي قد جلده في الشراب، فأُتِي به يومًا، فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم الْعَنْه، ما أكثر ما يؤتَى به! فقال النبي (لا تلعنوه، فواللهِ ما علمتُ أنه يحب الله ورسوله).

-          وأما أحاديث نفي الإيمان عن مرتكب الفواحش والخطايا، فإن لم يكن مجاهرا فنحن لا نعلم حقيقة توبته وإنابته، فكثير من هذه القاذورات لا يحتاج فاعلها سوى يقظة قلب يتوب فيها بينه وبين ربه (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)، ولا نفقد الأمل في نجاة موتى المسلمين الذين (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) من غير شرك ولا نفاق عقدي، ودورنا الآن محاولة إنقاذهم والإحسان إليهم بالدعاء والاستغفار والحج والصدقة والصوم كما جاء في السنة النبوية في توجيهه بالحج والصوم عن من مات وعليه حج أو صوم، ومشروعية الصدقة عنهم ودعاء الابن لأبيه، من غير اشتراط لمدى صلاح الميت، مستبشرين بقول الحق (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، لا البراءة من مسيئهم والتنصل من مجهول الحال منهم، والبخل عليهم ولو بسؤال المغفرة والرحمة لهم.

-          قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن أُناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ، وإنّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذُكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً؛ أمِنَّاه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنْه، ولم نُصدِّقْه، وإن قال: إنَّ سريرتَه حسنة). أولاً من أبدى لنا صفحته ولم يستجب لنصح ناصح في ارتكابه الموبقات مصراً على فعله فهذا مجاهر، وأمره محسوم فلا تكن أكيله وشريبه وقعيده ما استطعت، إلا أن مقولة الفاروق هذه ليست في الاستغفار والترحم على موتى المسلمين، وإنما في المعاملة التي يقوم عليها التناصح، وقبول الشهادة، وفي أمر تولية الناس أعمال الدولة كونه رضي الله عنه أمير المؤمنين، وإلا كيف يستطيع الاختيار إلا بالاختبار؟ وبهذا الاختبار اختار عمر معاوية وابن العاص والمغيرة وغيرهم من ولاة المسلمين، فمن الخطر استخدام الدليل في غير محله ولا سيما إن أدى إلى غلو في الدين، كحرمان الميت المسلم من حق من حقوقه على إخوته المسلمين كالصلاة عليه بمعناها الكامل ومن معناها الاستغفار له والترحم عليه، تماماً كحقه في التشميت إن عطس لو كان حياً.

 

 

خاتمة القول لا يجوز الترحم على من ارتد عن الدين، أو المجاهر بفسوقه وعصيانه وايذائه المؤمنين واستهتاره بمحارم الله وأركان دينه، والسبب واضح لأن هذين أظهرا لنا حقيقتهما المضادة للدين باختيارهما، فخرج أمرهما من علم الغيب إلى علم الشهادة، وأما غير هؤلاء من المتدثرين برداء الإسلام مهما كانت أحوالهم، فمن عبادة الله وحفظ قدسية الشهادتين والقيام بواجب الإخوة الإسلامية وصون تماسك المجتمع المسلم والتسهيل على المسلمين في أمر الولاء والبراء، فينبغي أن تواليهم مستغفراً لهم ومترحماً على ميتهم ومصلياً عليه، وتكل الغيب لله، ولا ينبغي أن تبحث عن عورات المسلمين لأنك غير مكلف بذلك وآثمٌ من يفعله، ولا تقدّم سوء الظن بعامة المسلمين فهذا هلاك لصاحبه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا قال الرجل: هلك الناسُ، فهو أهلكُهم)، ويشمل هذا من خالفك في مذهبك، فما المذاهب الإسلامية إلا اجتهادات علماء، أصابوا فيها وأخطأوا، فلا تكونن من الذي فرقوا دينهم وكانوا شيعا فقد أخرج أكثر رواة التفسير المأثور عن أبي هريرة في قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) قال: "هم في هذه الأمة"، وإنما (قل إنني هداني ربي إلي صراط مستقيم. ديناً قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم).

 

القاعدة المتفق عليها هي حمل الناس على ظاهرهم، وحمل الميت المسلم المجهول الحال على ظاهره تعظيماً لإسلامه هو ما يتفق مع هذا. وإن وجدت آراء متشددة فينبغي مراجعتها مع توقير من جاء بها من أهل الإخلاص، وينبغي مراعاة الظروف التي أملت تلك الآراء، وعلينا تغليب مصلحة تماسك البناء الإسلامي الذي يشد بعضه بعضا. التشدد في تفريعات الولاء والبراء بآراء كلامية واستنباطات بعيدة لا يؤدي إلا إلى الانكماش والعزلة، ثم إلى الانقسام والتشرذم.

 

 

وحاشا لربنا سبحانه وتعالى أن يغضب على عبد استغفر لمسلم مهما كان حاله، ومقصده بترحمه واستغفاره تنجية المؤمنين وطلب رضوان الله بإعطائه للمسلمين حقوقهم كاملة، موكلاً الغيب لله، واجداً في قول الحق (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) أملاً عظيماً ومدخلاً شرعياً لفعله، متحرزاً أن يوقع نفسه أو أحداً ممن حوله في دائرة ما نقله جندب بن عبدالله رضي الله عنه: قال رسول الله : قال رجلوالله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له، وأحبطت عملك. (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) ولا نيأس من موتانا (كما يئس الكفار من أصحاب القبور)

هذا قول أبتغي به وجه الله، فمن رأى فيه خيراً فليعمل به، ومن رأى فيه خللاً فليسدده، والحق أحق أن يتّبع، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ع ح   

(نسخة 1.4)



[1]  سعد بن خولة من السابقين إلى الإسلام، قيل لم يهاجر أصلاً، وقيل هاجر الهجرتين إلى الحبشة ثم المدينة، وشهد غزوات بدر وأحد والخندق وصلح الحديبية مع النبي ، ثم عاد إلى مكة، فمات بها قبل الفتح سنة 7 ه فكان ذلك مدعاة لأسف النبي عليه، وفي أسف نبي الرحمة عليه عظة وعبرة، وصدق الله القائل عنه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)ـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطبة عيد الأضحى 1446

  خطبة عيد الأضحى 1446  (تنبيه: العيد وافق جمعة ففي الخطبة فقرة بهذا) الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله ...