#كلام_في فضل الشعر على سائر الآداب.
الشعر أصعب أنماط الكتابة وأسلسها. نمط فضله على اللغة أعظم من
فضلها عليه، فلولاه لكانت أسيرة الرتابة خشنة الملمس فحررها ورققها لتطير أغنية في
عنان السماء مرقِّصاً أحرفَها، باعثاً مواتَها، حافظاً كيانَها، مجدداً
شبابَها، مالئاً كلماتِها بالمعاني والإيحاءات إلى درجة اختصام الناس جُرَّاها، بل
يكاد الشعر أن يكون لغة مستقلة بثقافتها ورمزيتها وكناياتها وتوظيفها المتجدد
للألفاظ، لغةً يستكشف بها الإنسان آماله وآلامَه وانفعالاتِه، ويمرر بها ما يصعب سرده
وأن يحتويه بذات الرقي أسلوب أدبي آخر، فيستطيع الإنسان عبره الغناء بجهله وغضبه
وإحباطه وضعفه وانفعالاته وعواطفه المتفجرة فيُحترم ويجلب التعاطف ويجعل الناس
ينظرون إلى القضايا من زاويته برغبة وسرور إلى درجة حفظهم لألفاظه عَبر العصور وترنمهم
بها من غير تغيير لمعانيه أو مبانيه، بينما يندر أن يبقى كلام سواه غير محرّف.
الشعر فن تجسيد الجمال بصورة أوسع من ريشة الرسام وأعمق من عدسة
المصور وأحلى من حبكة الراوي. وهو الصوت الصدّاح حتى للفكر الصامت والعقل الباطن،
وأمام موسيقاه تخفت كل موسيقى، ولولا ألفاظه لبقيت الموسيقى خرساء هلامية. وما من
شيء نقل قَصص الماضين وخلّد أحداث التاريخ وعِبَرِه، وبأسلوب رومانسي، كالشعر، ولهذا
ما من بلاط ملك إلا وللشعراء فيه مكانة، ولا يمضي سيف لمعركة إلا وقلم الشاعر
قرينه، ولولا شعر المهلهل لنُسي كليب،
ولولا مالك بن الريب لنُسي سعيد بن عثمان وحمْلته، ولولا المتنبي لكان سيف الدولة مجرد
"علي بن حمدان" حال كثير ممن سبقه ولحقه من الزعماء. إنّ فضل الشعر
باختصار هو ذلك الذي قال عنه الفاروق لأبناء هرم بن سنان عن شعر زهير: لقد ذهب ما
أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
فلا غرو أن يكون الشعر أقدم الفنون الأدبية المأثورة في كل
الأمم بلا منازع، طريّاً فوّاح الشذى رغم تقلبات الدهر واختلاف الأذواق والعصور؛
فأقدم وثيقة أدبية باقية على الإطلاق هي شعر سومري للأميرة إنخدوانا ابنة الملك
سرجون الآكدي (٢٦٠٠ ق م).
وأقدم أدب مصري هي ترانيم
شعرية اسمها كتاب الموتى (٢٤٠٠ ق م)
وأقدم ذاكرة هندية هي ترانيم
شعرية اسمها كتاب الرجفيدا (١٦٠٠ ق م).
وأقدم ذاكرة صينية هي شعر
شيجين واسمها كتاب الأغاني (١٠٠٠ ق م).
وأقدم ذاكرة يونانية هي
أشعار هوميروس الذي تنسب إليه الإلياذة والأوديسة (٨٥٠ ق م).
وأقدم ذاكرة لاتينية هي
أشعار الملحمي لوسيوس ليفيوس أندرونيكوس وترجمته للإلياذة والأوديسة (٢٠٠ ق م).
وأقدم ذاكرة عربية بلا
منازع هي الشعر الجاهلي.
ولا شك أنه كان لهذه الأمم من الفنون الأدبية الكثير لكنها لم تقاوم رياح الزمن بخلاف الشعر.
هذا بالنسبة لبقاء الشعر في الأمم، أما على مستوى الفرد فإن للإنسان (سِنَّ تقاعد معرفي) تتراجع عنده قواه المعرفية لكي لا يعلم من بعد علم شيئا، ومن بقي عقله تبقى معارفه متحجرة في مستوى عفا عليه الزمن، لأن أسنان دواليب الفكر تتآكل تآكل المفاصل، أما ملَكة الشعر فإنها تزداد تعتقاً مع الزمن؛ لأن الشعر أساسه العواطف لا العلوم والمعارف، ولهذا تتضاعف قيمة القصيدة من لسان الجواهري وأصابعه ينفضها الشيب، ونستمتع بأحاديث الأجداد وهم ينفضون غبار الزمن عن ذكرياتهم. بينما الحديث في العلوم يحتاج إلى معاصرة وبحث وتجدد ومرونة في تقبّل المتغيّرات وهذا مخالف لسَنن المشيب.
إنّ الشعر فن مقدس يعلي شأن العاطفة الحكيمة المشبعة بالتجارب
حتى تصبح عقلاً بحد ذاتها يُسلِّم لها العقل المجرّد فلا يجادلها، فإن سمعتَ:
فيا شجرَ الخابورِ ما لَك مورقاً
كأنك لم تجزعْ على ابن طريفِ
يتفاعل عقلك ايجاباً مع الفارعة ولا تسائلها عن جنون السؤال
ومخالفته الحقائق الثابتة في عدم تأثر الشجر بموت الناس.
إنّ مباني الشعر لا ترتفع، وايحاءاته لا تتعمق، ومعانيه لا تزكو،
وعُراه لا تتوثق إلا إذا ما خرج من محاريب الترانيم السماوية مصطلياً بنيران التجارب
الحكيمة، وأمّا ما سوى ذلك فيمحوه الدهر ولو كثُر.
إن الشعر، ومنذ نشأة اللغة، ديوان البشرية الخالد، فيه وحي تجاربها، مرسومة بعمق وإيجاز وقرب من مشاعر الناس، وهو جسر ما بين حضاراتهم، وفي ألحانه طب لنفوسهم، وعَزَّ أن تجد صوتاً تحيا به الروح بعد كلام الغفَّار مثل ترانيم الأشعار، فعبره نطوّر إنسانيتنا ونعدّل أمزجتنا؛
ولولا خلال سنَّها الشعر ما درى
بناة العلا من أين تؤتى المكارم.
عبدالله بن حمدان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق