الجمعة، 10 فبراير 2023

رثاء عدو كان صديقاً

 قال أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي[1] في رثاء صديق أصبح عدواً:

 

أيَدري السيفُ أيَّ فتىً يُبيدُ

وأيَّةَ غايةٍ أضحى يريدُ

 

لقد صادتْ يدُ الأيام طيراً

تضيقُ به حِبالةُ من يَصيدُ[2]

 

وأصبح في الصعيدِ أبو سعيدٍ[3]

ألا إن الصعيدَ به سعيدُ

 

وقد كانت تَضيقُ الأرضُ عنهُ

فلِمْ وسِعتْ لجثَّتِهِ اللحودُ

 

بلى مَسَّ الثرى قلباً رحيباً

فأعدى التُّربَ فاتَّسَعَ الصعيدُ

 

فلا أدري أَأضحكُ أم أُبَكِّي

وتَهدِمُني المنيَّةُ أو تَشيدُ

 

صديقٌ قد فقدناهُ قديمٌ

وثُكْلٌ قد وجدناهُ جديدُ

 

مُصابٌ وهو عند الناسِ نُعمى

ونَحْسٌ وهو عند الناس عيدُ

 

تُهنيني الأنامُ به ولكن

تُعزيني المواثقُ والعهودُ

 

وسيفٌ قد ضربتُ به مِراراً

فمِن ضرباتِهِ بي لي شهودُ

 

فلمّا أنْ تَفلّلَ ظِلتُ أبكي

وعندي منهُ بعدُ دمٌ جسيدُ[4]

 

ومِن عَجَبِ الليالي أنّ خصمي

يَبيد وأنَّ حُزْني لا يَبيدُ

 

وأن النِّصفَ من عيني جُمودٌ

وإن النصفَ من قلبي جليدُ

 

إذا سَفحتْ عليه دموعُ عيني

نَهاها الهجرُ منه والصدودُ

 

وآثارٌ له عندي قِباحٌ

يُجمِّشُ بينها الرأسَ الحديدُ[5]

 

فنِصْفٌ مِن مَدامِعها سَخينٌ

ونِصْفٌ مِن مَدامعها بَرودُ[6]

 

فمَن هذا رأى في الناسِ مِثْلي

أُريدُ من المُنى ما لا تُريدُ

 

ومِن نكَدِ المَنيَّةِ فقدُ حُرٍّ

تَخالَفَ فيه إخواني الشهودُ

 

فذا هنّى وقال مضى عدوٌّ

وذا عزَّى وقال مضى وَديدُ

 

رأيتُ العقلَ يَنفعُ وهو قَصْدٌ

ويُلقي في المهالكِ إذ يزيدُ

 

كمثلِ الدرعِ إنْ خفّت أجنَّتْ[7]

وإنْ ثَقُلَتْ فحامِلُها جهيدُ

 

ومِثْلِ الماءِ يَروي مِنهُ قَصْدٌ

ويَقتلُ منه بالغرقِ المزيدُ

 

شهِدتُ بأنَّ دهراً عشتَ فيهِ

ومتَّ مقيَّداً، فرداً، مُبيدُ

 

وقالوا البحرُ جزرٌ ثم مدٌّ

فما لَك قد جَزَرتَ ولا تعودُ

 

بكيتُ عليك بالعينِ التي لَمْ

تَزلْ من سوءِ فِعلك بي تَجودُ

 

فقد أبكيتَني حيّاً وميْتاً

فقل لي أيُّ فعلَيك الرشيدُ

 

فها أنا ذا المهنأ والمعزّى

وها أنا ذا المباغِضُ والودودُ

 

وها أنا ذا المصابُ بك المعافى

وها أنا ذا الشقيُّ بك السعيدُ

 

لقد غادرْتني في كلِّ حالٍ

أذمُّ الدهرَ فيك وأستزيدُ

 

فلا يومٌ تموتُ به مجيدٌ

ولا يومٌ تعيشُ به حميدُ

 

وما أصبحتَ إلا مثلَ ضرسٍ

تآكَلَ فهو موجودٌ فقيدُ

 

ففي تركي له داءٌ دَويٌّ[8]

وفي قَلعي له ألمٌ شديدُ

 

فلا تبعُدْ، إقامةَ رسمِ حقٍ،

وإنَّك أنت لَلشيءُ البعيدُ[9]

 

وإنك أنت لَلسيفُ الحديدُ

وإنك أنت لَلعِلم السديدُ

 

وإنك أنت لَلدنيا جميعاً

ولكن ليس للدنيا خلودُ#

 



[1]  أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي ت ٣٨٣هـ أديب من أئمة اللغة وشاعر مطبوع ذهب غالب شعره وهو ابن أخت الإمام ابن جرير الطبري ت٣١٠هـ. ، وليس هو الفقيه الحنفي أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي ت ٤٠٣هـ.

 

[2]  الحبالة المصيدة.

[3]  أبو سعيد أحمد بن شبيب الشبيبي قال عنه الثعالبي في يتيمة الدهر: فرد خوارزم ومفخرتها وكان جامعا بين أدب القلم والسيف وفروسية اللسان والسنان، صاحب كتب وكتائب وفضائل ومناقب، ولما اختصَّ بالدولة السامانية والدولة البويهية سمى صاحب الجيشين وشيخ الدولتين. وأنشدني أبو عبد الله محمد بن حامد قال أنشدني أبو سعيد صاحب الجيشين لنفسه في أبي بكر الخوارزمي:

أبو بكرٍ لهُ أدبٌ وفضلٌ ... ولكن لا يدوم على الإخاءِ

مودتُهُ إِذا دامت لخلٍ ... فمن وقتِ الصَّباحِ إِلى المساءِ.

 

[4]  جسيد: يابس لاصق.

[5]  يجمّش: يحلق.

[6]  البَرود بالفتح ما يبرّد الغلة، وكذلك الكحل لتبريد العين.

[7]  أجنّ: وقى.

[8]  الداء الدوي: المهلك.

[9]  الرسم: القبر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطبة عيد الأضحى 1446

  خطبة عيد الأضحى 1446  (تنبيه: العيد وافق جمعة ففي الخطبة فقرة بهذا) الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله ...