كلام في المال
السبب الأبرز لصراعات البشر هو المال،
وأبغض الناس عند الناس من يسلبهم ما في أيديهم، وأنقاهم من يتعفف عما في أيديهم
ولا أحب إليهم منه سوى الذي يعطيهم ما في يده، فلا غرو أن تكون من أول كلمات الرسل
للناس ﴿وما أسألكم عليه من أجر﴾، وأن تركز الرسالات السماوية كثيرا على أحكام المال
وتداوله حتى كان المال إحدى الكليات الخمس التي أتى الدين لحفظها بل هي الضرورية
الوحيدة المنفصلة عن الشخص انفصالاً مادياً تاما من بين الخمس (الدين والنفس والمال
والعرض والعقل)، وكانت الزكاة ركنا من أركان الدين، واشتغل القرآن بالحض على الزكاة
والصدقة وحفظ مال اليتيم وأداء الحقوق وفصّل الأحكام بما لم يفصّل في غيره حتى كانت أطول آية في
القرآن والتي تليها تتحدث عن تشريعات استدانة المال فقط، وأعلن الله حرباً من الله
ورسوله على الربا بأسلوب لم يعلنه على غيره إذ خاطب بذلك المؤمنين خاصة.
ثم تأمل العقوبات وكيف شدد الإسلام في حدّ السرقة ولو كانت بما
يعادل قيمة بيضة بينما تجده يحرم الخمر لكنه يسكت عن الحد فيها وهي أم الخبائث.
وكيف جعل حد الزنا لغير المحصن 100جلدة وتبقى للمحدود أعضاؤه، مع تشدد عظيم في
الشهادة عليه بأربعة شهداء لإثبات الجرم وبشروط توصل إقامة الحد مبلغ الاستحالة
ويكفي من ذلك أن الشاهد مطالب بداهة هنا بأن لا يشهد ولا ينظر إلى العورات فإذا ما قصرت شهادة أحد الشهود عن ما يقام به الحد فيقام الحد على بقية الشهود لا على المشهود عليه وذلك بجلدهم 80
جلدة وإسقاط أهليتهم للشهادة مستقبلا، وجعل إسقاط حد الزنا سهلا على ولي الأمر
وشجّع الزاني على التطهر بالتوبة سرا وأن يستتر بستر الله، وهذا رسول الله صلى
الله عليه وسلم يرد ماعزاً الأسلمي مراراً بعد أن اعترف على نفسه إلى أن أصر
المعترف وطلب تطبيق الحد على نفسه، بينما في السرقة غضب الرسول ﷺ غضبا شديدا على أسامة
وهو من أحب الناس إليه عندما تدخّل لإسقاط الحد وقال له: أتشفع في حد من حدود
الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم
الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت
محمد سرقت لقطعتُ يدها.
إن إقامة العدل والميزان أساس لحياة الأمم، ومن أول ذلك أمر
المال، إذ لا يفسد المجتمع بشيء مثل الفساد فيه، وأما السرقة من المال
العام فإنها تتجاوز خطر السرقة المعتاد وتدخل في حكم الإفساد في الأرض، لأنها إشعال للفتنة التي هي أخطر من القتل ودمار للبلدان، ﴿إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن
يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي
في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ ولعل من أسباب التهوين
من خطره البارز أن بعض الفقه نشأ تحت إمرة أهل الفساد فلا
ينبغي أن يجعل ديناً لا يراجع، وإنما ينبغي إنفاذ أقسى العقوبات الممكنة بلا هوادة، فهذا استئصال للسرطان من جسد المجتمع.
إن الله جعلنا مجرد مستخلفين في المال فينبغي أن نقوم فيه بالعدل
والميزان وإلا هلكنا.
هذا والله من وراء القصد
عبدالله بن حمدان