أظهر نيوتن أن كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات،
حتى أنّ خلاصة بعض الفصول معادلات واضحة المعالم، لكن الباحثين الذين حاولوا تقعيد
علوم الأحياء والاقتصاد والنفس في قوالب معادلات نيوتنية أنيقة، اكتشفوا أن هذه
الحقول بها مستويات من التعقيد تجعل هذا الطموح غير مجد، إلا أنّ ذلك لم يعنِ
التخلي عن الرياضيات، فتم على مدى المائتي عام الماضية تطوير فرع جديد من
الرياضيات، للتعامل مع جوانب الواقع الأكثر تعقيدًا سمي: علم الإحصاء.
عام ١٧٤٤ قرّر اثنان من رجال الدين المشيخيين[1] في اسكتلندا وهما ألكسندر
ويبستر وروبرت والاس[2]،
إنشاء صندوق تأمين على الحياة لتوفير معاشات لأرامل الرهبان وأيتامهم[3]. واقترحوا أن يدفع كل راهب
جزءا صغيراً من راتبه إلى صندوق يستثمر المال. فإذا ما توفي أحدهم، فإن أرملته
ستحصل على عائد من أرباح الصناديق، يوفر لها عيشاً كريماً بقية حياتها. ولكن
لتحديد المبلغ الذي يتعين على الكهنة دفعه حتى يكون لدى الصندوق ما يكفي من المال
للوفاء بالتزاماته توجّب على وبستر ووالاس أن يكونا قادرين على التنبؤ بعدد الكهنة
الذين سيموتون كل عام، وعدد الأرامل والأيتام الذين سيحصلون على العوائد، وكم سنة
ستعيش الأرامل بعد أزواجهن.
استعانا بأستاذ رياضيات من جامعة أدنبرة هو كولين
ماكلورين[4]. جمع الثلاثة بيانات عن
الأعمار التي مات فيها الناس واستخدموها لحساب عدد الكهنة الذين تحتمل وفاتهم كل
عام.
تم تأسيس عملهم على عدة فتوح معرفية حديثة في
مجالات الإحصاء والاحتمالات، كان أحدها قانون الأعداد الكبيرة لجاكوب برنولي. قام
برنولي بتدوين المبدأ القائل بأنه على الرغم من صعوبة التنبؤ بحدث معين، كوفاة شخص
محدد، إلا أنه من الممكن التنبؤ بدقة كبيرة بمتوسط نتائج العديد من الأحداث
المماثلة. في حين أن ماكلورين لم يستطع استخدام الرياضيات للتنبؤ بما إذا كان
وبستر ووالاس سيموتان العام المقبل، فإنه يمكن إذا أعطي بيانات كافية أن يخبر
وبستر ووالس عن عدد المشيخيين في سكوتلاند الذين سيموتون العام المقبل. لحسن الحظ،
كان لديهم بيانات جاهزة يمكن استخدامها، حيث أثبتت الجداول التي نشرها إدموند هالي
قبل خمسين عامًا أنها مفيدة لهم بشكل كبير. قام هالي بتحليل سجلات ١٢٣٨ حالة ولادة
و١١٧٤ حالة وفاة حصل عليها من مدينة بريسلاو بألمانيا[5]. وفّرت جداول هالي قدرة على
معرفة أن احتمال موت شخص في تلك البيئة وهو في العشرين من العمر سيكون ١ : ١٠٠، بينما احتمال أن يموت ابن الخمسين ١ : ٣٩.
بمعالجة هذه الأرقام، استنتج وبستر ووالس أنه في
المتوسط، سيكون هناك ٩٣٠ كاهناً مشيخياً اسكتلندياً حياً في أي لحظة، وسيموت في
المتوسط سبعة وعشرون كاهناً كل عام، ثمانية عشر منهم سيخلفون أرامل. خمسة من
أولئك الذين لم يخلفوا أرامل سيخلفون أيتاماً، كما أن اثنين من أولئك الذين تركوا
أرامل سيخلفون أيضاً أيتاماً من زيجات سابقة لم يصلوا بعد إلى سن السادسة عشر. كما
أنهم حسبوا كذلك الوقت المستغرق قبل موت الأرامل أو زواجهن مجدداً (في كلتا
الحالتين سيتوقف دفع المعاش). هذه الأرقام مكّنت وبستر ووالاس من تحديد مقدار
المال الذي كان على المشتركين في الصندوق دفعه من أجل إعالة أحبائهم بعدهم. من
خلال المساهمة بجنيهين و١٢ شلنج و٢ بنس في السنة، يمكن للمشترك ضمان أن تتلقى
أرملته ما لا يقل عن ١٠ جنيهات إسترلينية في السنة، وهو مبلغ ضخم تلك الأيام.
وإن كان المؤمّن يعتقد أن هذا لا يكفي فيمكنه
ترقية المساهمة لتصل إلى ١١ جنيهاً إسترلينياً و١١ شلنج و٣ بنس في السنة، وهذا من
شأنه أن يضمن للأرملة مبلغًا أجزل يبلغ ٢٥ جنيهًا إسترلينيًا سنويًا.
توقعوا وفق حساباتهم، أن يصل رأس مال الصندوق
المخصص لأرامل وأطفال رهبان كنيسة سكوتلاند بحلول عام ١٧٦٥ مبلغ ٥٨٣٤٨ جنيهاً
إسترلينياً. أثبتت حساباتهم دقة مذهلة، فعندما وصل ذلك العام، بلغ رأس مال
الصناديق ٥٨٣٤٧ جنيهاً إسترلينياً -أقل بقليل من التوقعات!
يعتبر اليوم صندوق وبستر والاس، والمعروف حالياً
باسم سكوتيش ويدوز "الأرامل الأسكتلنديات"، من أكبر شركات التقاعد
والتأمين في العالم. مع أصول تبلغ قيمتها 125 مليار جنيه استرليني[6]، وأصبح لا يخدم فقط الأرامل
الأسكتلنديات، ولكن كل راغب في شراء سنداته.
أصبح حساب الاحتمالات مثل تلك التي استخدمها الراهبان
الاسكتلنديان الأساس ليس فقط للعلوم الاكتوارية، والتي هي مركزية في الأعمال
التقاعدية والتأمين، ولكن أيضا في علم الديموغرافيا (الذي أسسه رجل دين آخر
هو الأنجليكاني روبرت مالتوس). وكانت الديموغرافيا بدورها حجر الزاوية الذي بنى
عليه تشارلز داروين (الذي كاد أن يصبح راهباً إنجليكانيًا) نظريته في التطور؛ ففي
حين لا توجد معادلات تتنبأ بنوع الكائن الذي سيتطور في إطار مجموعة معينة من
الحالات، فإن علماء الوراثة يستخدمون حسابات الاحتمالات لحساب احتمالية انتشار
طفرة معينة في مجموعة سكانية معينة.
كذلك أصبحت نماذج مشابهة من حساب الاحتمالات
أساسية في الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس والعلوم السياسية وغيرها من العلوم
الاجتماعية والطبيعية. حتى الفيزياء استكملت في النهاية معادلات نيوتن الكلاسيكية
باحتمالات ميكانيكا الكم.
نحتاج فقط إلى النظر إلى تاريخ التعليم لنعرف ما
استغرقته هذه العملية، فعلى مدار معظم التاريخ، كانت الرياضيات مجالًا غير مقصود
بالدرس، حتى أن طلابها نادراً ما درسوها بجدية. في أوروبا العصور الوسطى، شكّل
المنطق والنحو والبلاغة لباب التربية، ونادراً ما ذهب تدريس الرياضيات أبعد من
الحساب والهندسة البسيطة. لم يدرس أحد علم الإحصاء، وكانت حصة الأسد من التعليم
تذهب بلا منازع للتعليم الديني.
اليوم، عدد قليل من الطلاب يدرسون البلاغة؛ وأصبح
تدريس المنطق يقتصر على كليات الفلسفة، واللاهوت على المعاهد الدينية.[7]
هناك اليوم المزيد من الدوافع التي تحفز الطلاب أو
تجبرهم على دراسة الرياضيات، حيث توجد رغبة عارمة في العلوم الدقيقة، ووصفها
"بالدقيقة" لاستخدامهما الأدوات الرياضية، وحتى مجالات الدراسة التي
كانت تقليديا جزءا من العلوم الإنسانية، مثل دراسة اللغويات وعلم النفس، أصبحت
تعتمد بشكل متزايد على الرياضيات وتسعى لتقديم نفسها كعلوم دقيقة.
تعتبر المساقات الإحصائية جزءًا من المتطلبات
الأساسية ليس فقط في الفيزياء والأحياء، ولكن أيضًا في علم النفس وعلم الاجتماع
والاقتصاد والعلوم السياسية.
مثلاً، أول مساق مطلوب في مساقات التعليم في قسم
علم النفس بجامعتي[8]،
هو "مقدمة في الإحصاء والمنهجية في البحث النفسي". وفي السنة الثانية
يجب أن يأخذ طلاب علم النفس: "الأساليب الإحصائية في البحث النفسي".
هل دار في خلد الناس يوماً أنه من أجل فهم العقل
البشري وعلاج أمراضه يجب علينا أولاً دراسة علم الإحصاء؟
يوفال نوح هراري - العُقَّال: دراسة موجزة في
تاريخ البشرية ٢٨٥ - ٢٨٨ بتصرف[9]
http://www.ynharari.com/.
http://www.ynharari.com/.
[1] الكنيسة
المشيخية اتجاه بروتستانتي بها شيوخ للحكم
وللتعليم، ولا حظر بها على زواج الكهنة مثل كثير من الكنائس.
[2] مع اشتهارهما بمعاقرة الخمر
وتأسيس نواديها اشتهرا كذلك بعشق الرياضيات والتمكن فيها، وكلاهما كاتب مقتدر. لوالاس
كتاب ريادي في علم السكان يقال بأن له أثر على روبرت مالثوس.
[4] كولين ماكلورين أحد الأسماء الخالدة في تاريخ
الرياضيات، عضو الجمعية الملكية وصديق مقرب لنيوتن، له إسهامات في الهندسة والجبر،
منها متسلسلات ماكلورين. توفي بعد سنتين من مساعدة نديميه وبستر ووالاس.
[6] الأصل في النص 100 مليار جنيه استرليني (صدر
الكتاب في 2014) لكن عدلناه وفق تقرير الملاءة المالية 31 ديسمبر 2016 ص 83 من هذه الأصول 2.6 مليار جنيه إسترليني رأس مال
حر. رأس المال الحر هو مقياس للأصول المتاحة للمؤسسة، مطروحًا منها الحد الأدنى لرأس
المال الذي يجب الالتزام به تجاه المنظمين. http://reference.scottishwidows.co.uk/docs/Group-SFCR.pdf
[7] هل هذا التغيّر هو البديل الصحيح، سؤال يحتاج
إلى تأمل لكن الواقع يشير إلى وجوب الاتزان، فالمتعلم الخلو من المعرفة الدينية
وعلوم البلاغة والبيان والمنطق أقرب لأن يكون رجلاً آلياً منه إلى بشر.