الأحد، 8 يونيو 2025

خطبة عيد الأضحى 1446

 

خطبة عيد الأضحى 1446

 (تنبيه: العيد وافق جمعة ففي الخطبة فقرة بهذا)


الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

 

الله أكبر عددَ ما ذكره الذاكرون، الله أكبر عدد ما هلَّل الْمُهلِّلون، وكبَّر المكبِّرون، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، الله أكبر عدد ما أحرم الحُجَّاج والمعتمرون، ولبى الملبون وطاف الطائفون وسعى الساعون ودخل الحجاج مكة ومِنًى وعرفات ومزدلفة. الله أكبر ولله الحمد بلا عدٍّ ولا إحصاءٍ ولا انتهاء.

 

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

 ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 

 ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا 

 ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا 

 

عباد الله، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى في السر والعلن؛ فإن تقوى الله هي الزاد النافع الذي يتزود به الإنسان للقاء ربه؛ فقد قال الله تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين) وقال سبحانه وتعالى ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ وقال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ .

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

عباد الله

اعلموا أن لكل شيء بيئةً ملائمة يتكون فيها، فلا يتكون اللؤلؤ إلا في بيئته، ولا تتكون ثمار الأشجار إلا في بيئاتها، فإن لم تتوفر فلا لؤلؤَ يتكون ولا ثمارَ تطيب مهما فعلنا، وهكذا التقوى فالتقوى لا تتكون إلا في قلبٍ صالحٍ نظيف صافٍ، يعمره الإيمان، ولا تلوثه الضغائن والأحقاد، كما لا يلوثه شرك ولا كفر ولا نفاق ولا رياء ولا كبر ولا حسد. قلب نواياه حسنة، لا يبتغي إلا وجه الله، (ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ) وإلا فلا نفعَ في تعب أعضاء البدن بالأعمال من جهاد وصلاة وصيام وحج وعمرة وذكر، ولا من بذل مال، يقول الحق سبحانه وتعالى (قول معروفٌ ومغفرة خيرٌ من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم)، (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)، وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسولَ اللهِ، فُلانةُ تَصومُ النَّهارَ وتَقومُ اللَّيلَ، وتُؤذي جيرانَها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، فُلانةُ تُصلِّي المَكتوباتِ، وتَصَّدَّقُ بِالأَثوارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ. والأثوار من الأقط -قطع من اللبن المجفف استقلالاً لما تفعل.

وقيل لرسول الله ﷺ: أي الناس أفضل؟ قالكلُّ مخمومِ القلب، صدوقِ اللسان قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قالهو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد. فتأمل حال مخموم القلب، كأنه اتخذ مخمَّة يكنس بها قلبه من الملوثات التي تطرأ على الإنسان في تعاطيه مع الحياة وما فيها فلا يبقى فيه درن.

ومن حديثه صلى الله عليه وسلم: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدَ مُرْبَادًّا كَالْكُوز مُجَخياً لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ). مثّل هذا القلب الأسود بالكوب المنكوس الذي يعلوه الغبار لا ينتفع به.

 

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

عباد الله

اعلموا أن أحق الناس بالإحسان ورفع الإساءة، والدفع معهم بالتي هي أحسن الأهلُ والأرحام، ففي الحديث (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) وقال عليه الصلاة والسلام (الرحم معلقة بالعرش، تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله).

جاءت شريعة الله آمرةً بصلة الرحم، والعفوِ عن المسيء، ومقابلةِ الإساءة بالإحسان، قال الله تعالى : ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ). وفي الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون عليّ، فقال:  لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك) والمَل الرماد الحار.

وليس في الشقاق والنزاع بين المؤمنين إلا الفشل وذهاب القوة قال سبحانه (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين).

وأعظم الأرحام حقوقاً بعد الوالدين هو الجار المسلم ذو الرحم فقد جمع ثلاثة حقوق حقَّ الجيرة وحق الرحم وحق الإسلام، وفي الحديث (ما زال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنه سيورِّثُه) وقال عليه الصلاة والسلام (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه). والبوائق: جمع بائقة، وهي الظلم والشر. وقال عليه الصلاة والسلام  (والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحبَ لجارِه أو لأخيه ما يحب لنفسه) وقال رجلٌ يا رسولَ اللهِ كيف لي أن أعلمَ إذا أحسنتُ أو أسأتُ؟ قال إذا سمعتَ جيرانَك يقولون قد أحسنتَ فقد أحسنتَ، وإذا سمعتَهم يقولون قد أسأتَ فقد أسأتَ).

وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلوا الجنةِ حتى تؤمِنوا، و لا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلُّكم على ما تحابُّون به؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: أَفشوا السلامَ بينَكم).

 

 الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

 عباد الله،

اعلموا أن إصلاح ذات البين وتأليف القلوب هو من أعظم الأعمال والقربات إلى الله عز وجل، قال الله تعالى : {لا خير في كثيرٍ من نجواهُم إلّا من أمر بصدقةٍ أو معرُوفٍ أو إصلاحٍ بين النّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه فسوف نُؤتيه أجرًا عظيمًا} وقال جل من قائل : {يسألُونك عن الأنفال قُل الأنفالُ للّه والرّسُول فاتّقُوا اللّه وأصلحُوا ذات بينكُم وأطيعُوا اللّه ورسُولهُ إن كُنتُم مُؤمنين}

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ " قالوا: بلى، قال: "إصلاحُ ذات البين، فإن فسادَ ذات البين هي الحالقة).

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث).

وقال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).

وقال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار).

 

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

 عباد الله،

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يومُ عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدُنا- أهلَ الإسلام- وهي أيام أكلٍ وشُرْبٍ))؛ ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يومُ النَّحر، ثم يوم القَرِّ)) ويوم القر هو اليوم التالي ليوم النحر من أيام التشريق المباركة، ويبدأ وقت ذبح الأضحية من بعد صلاة عيد الأضحى، وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة. أي أن أيام الذبح أربعة: يوم الأضحى وأيام التشريق الثلاثة بعده. والأفضل المبادرة بالذبح بعد صلاة العيد (فصل لربك وانحر). وهي سنة من سنن الإسلام للمقتدر، (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). هذا ومن شعائر العيد كذلك صلةُ الرحم، والإكثارُ من التكبير والتهليل والتحميد، والتكبيرُ عقب الصلوات إلى آخر أيام التشريق.

 

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

أيها الناس قد جمع الله لكم في هذا العيد عيدين عيدَ الأسبوع، يومَ الجمعة، وعيدَ الأضحى المبارك، وفي السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما اجتمع في يومه عيدان، صلى العيد، ثم رخص في الجمعة، وفي لفظ أنه قال: قدِ اجتمعَ في يومِكم هذا عيدانِ فمن شاءَ أجزأَهُ منَ الجمعةِ وإنَّا مجمِّعونَ، فالأعظمُ أجراً بلا شك أداءُ الجمعة يومَ العيد، ولا سيما من هو بجوار الجامع.

 

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

  هذا وصلوا وسلموا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، كما أمركم ربكم (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)...

 

اللَّهُمَّ إِنِّا أنسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَنسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَنسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنسْأَلُكَ قلوباً سَلِيمَةً، وألسنةً صَادِقَةً، وَنسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَنسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (3)

 

الجمعة، 16 مايو 2025

إذا ذكرتك محزونا

 إذا ذكرتكِ محزوناً تَفتّحَ لي

بابُ السعادةِ في فكري وإحساسي


وإن ذكرتُ بِعادي عنك في فرح

رأيتُ دون ابتهاجي الفَ متراس


لا أُنْسَ للمرءِ خِلواً من أحبتِهِ

وأنت من بين كلِّ الناسِ ايناسي


وقفٌ عليك بلا شِرْكٍ من امرأةٍ

قلبي وعيني وديواني وأطراسي


وليذهبِ الناسُ في الأقوالِ ما ذهبوا

لم يسلمِ الأنبيا من ألسن الناس


الناسُ دَيدَنُهمُ نقدٌ وتخطئةٌ 

حتى على ربِّهم من غيرِ مقياسِ


إذا ارتضى الناس هرّاً صار قسورةً

ومن يجافي يرى الكربونَ في الماسِ 


لهم غِنايَ وآدابي ومنفعتي

ولي همومي وآلامي وإفلاسي


ع ح

٣/مايو/٢٠٢٤

الجمعة، 4 أبريل 2025

الهدى اكتساب

 ﴿وَأَمَّا الغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤمِنَينِ فَخَشينا أَن يُرهِقَهُما طُغيانًا وَكُفرًا﴾ [الكهف: 80]


لماذا كان الحل القتل لا الهداية؟


الجواب: لأن الهداية والضلال أمور كسبية، وهداية الله ينالها من يسعى إليها (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ممن توجه إليه باحثا عن الحق بدليل تمام الآية:] والله أعلم بالمهتدين)، وإلا فمن يصر على الكفر لا يهديه الله (إن الله لا يهدي القوم الظالمين/الكافرين/الفاسقين/من هو مسرف كذاب).


وهذا الفتى متجه إلى الطغيان، ولا يخفى ذلك على عالم الغيب والشهادة، العليم الحكيم، وهو أشبه بالذي (قال لوالديه أف لكما … الآية) ، وكما قيل لنبي الله نوح عليه السلام (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) وقوله (ولن يلدوا إلا فاجرا كفارا) فالتخلص منه هو إنقاذ لنفس مؤمنة، كما هي حال الحدود.


فلا بد للإنسان أن يطلب الهدى أولا ليفتح الله له بابه (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى).


من سنن الله الثابتة (لا إكراه في الدين) فكما أن الله يأمرنا أن لا نُكره أحدا على الدخول في دينه، فمن باب أولى أنه هو سبحانه لا يُكره أحدا على الايمان والهدى.


والسبب الأساس في هذا أن الإنسان وافق طائعاً مختاراً على حمل الأمانة، ومن أول الأمانة أمانة الهدى، ولو تدخل الله وانتزع الأمانة وأكره الإنسان على الهدى من غير رغبة منه لوقع تضارب في المسؤوليات والتكليف، ونقض من الله للعهد تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

الخميس، 3 أبريل 2025

حقيقة المعلقات

حقيقة المعلقات


المعلقات قصائد جاهلية طويلة مشهورة لجودتها علقت بالأذهان، وهي ولا سيما معلقة امريء القيس أساسات في شعر اللاحقين حيث نظموا على منوالها واستخدموا أساليبها وصورها والفاظها حتى بلغ الاقتباس استعارة بيت أو أغلبه كما في معلقة طرفة. لكن يظهر أن تسميتها بالمعلقات أمر حدث في عصور إسلامية متأخرة.


متى عرفت بهذا الاسم؟ 


لا يوجد ذكر مدون لتسمية قصيدة (معلقة) في العصور الأولى، وعلى الأقل  إلى سنة ١٧٠ هجري تاريخ وفاة صاحب الجمهرة، واستمرت كتب الأدب إلى القرن الثالث الهجري لا تسميها إلا  القصائد السبع الطوال، والسموط، والسبعيّات.


من الذي قال بتعليق القصائد على الكعبة؟


هناك كلمة تنسب إلى ابن الكلبي ت 204 زعم فيها انّ أوّل ما علّق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتّى نظر إليه ثمّ اُحدر، فعلّقت الشعراء ذلك بعده. اهـ.


هل أخذ أهل الاختصاص بقول ابن الكلبي؟


لم يشتهر ابن الكلبي بالأمانة العلمية وحسن التحقيق، لهذا لم يأخذ بقوله أئمة الأدب كالجاحظ ت255هـ وابن قتيبة ت276هـ والمبرد ت285هـ وأبو الفرج الأصفهاني ت356هـ، ولا غرو إذ لم يتعرض من قبل لهذه التسمية أيٌ من أئمة الأدب واللغة ورواية الشعر قبلهم فلم يذكر ذلك أبو عمرو بن العلاء ت154هـ ولا حماد الراوية ت ١٥٦هـ ولا المفضل الضبي ت ١٦٨هـ ولا الخليل بن أحمد الفراهيدي ت170هـ ولا أبو القاسم القرشي ت170هـ ولا سيبويه ت180هـ ولا خلف الأحمر ت180هـ ولا معمر بن المثنى ت209هـ ولا الأصمعي ت216هـ ولا ابن الأعرابي ت231هـ ولا أبو تمام ت231هـ ولا ابن سلّام الجمحي ت 231هـولم يشر إلى هذه التسمية أي شاعر إسلامي أو أموي أو عباسي لا تصريحاً ولا تلميحا على غزارة إنتاجهم الشعري!


إذن ماذا كانت تسمى؟ 


هي مختارات رواة الشعر، اشتهرت بالقصائد الطوال، وقد يطلق على القصائد المستجادة السموط (السِّمط بالكسر القلادة)، وهذه في الأصل عبارات إعجاب لا تصنيفات أدبية معتبرة.


من أول من جمعها؟


يرجح أبو جعفر النحاس ت٣٣٨هـ أن حماد الراوية ت ١٥٦هـ هو أول من اختار سبع قصائد جاهلية عرفت لاحقاً بالمعلقات، يقول النحّاس: (إنّ حمّاداً لمّا رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضّهم عليها وقال لهم: هذه هي المشهورات) ويقول ابن سلّام الجمحي ت 231هـ عن حمّاد: (أوّل من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها). وروي أن بعض أمراء بني أمية أمر حماداً أن يختار له سبعة أشعار لتأديب أبنائه عليها، فاختار سبع طوال إحداها لعلقمة الفحل، وكان حماد ذا حظوة عند بني أمية، ولا زال دأب الخلفاء توظيف من يؤدب أبناءهم ويعلمهم الفصاحة فمن المدون مثلاً أن أبا جعفر المنصور كلّف المفضل الضبي باختيار بعض الأشعار لتأديب ابنه المهدي فكانت (المفضليات).


هل يوجد اجماع على المعلقات؟


لا يوجد إجماع على المختار من القصائد ولا على أصحابها في العصور الأولى. أما أول من جمعها على الصورة التي نعرفها اليوم وأوصلها إلى عشر فهو الخطيب التبريزي ت502 ولم يعنون كتابه بالمعلقات وإنما أسماه (شرح القصائد العشر) وهذا مع نهاية القرن الخامس الهجري، وسنعود إلى هذا عند حديثنا عن أقدم شروح المعلقات.


ما أهم مظاهر الاختلاف بين الرواة؟


هناك اختلاف في المختارات هكذا:


حماد الراوية ت ١٥٦هـ: أصحاب السبع الطوال عنده هم؛ امرؤ القيس وطرفة وزهير وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة ولبيد وعلقمة الفحل.


المفضل الضبي ت ١٦٨هـ:  أصحاب السبع الطوال عنده -كما نقل عنه ذلك صاحب الجمهرة- هم؛ امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفة، ولكنه لمّا اختار ثمانين قصيدة في المفضليات لم يختر أياً منها، ولم توضع فيما زيد في المفضليات من بعده، ولكن قد يكون سبب إهماله لها كما أهملت في (الأصمعيات) هو شهرتها بما يغني عن ذكرها.


أبو القاسم القرشي ت ١٧٠هـ: (جمهرة أشعار العرب) أصحاب السبع الطوال عنده والتي سماها السموط هم؛ امرؤ القيس وزهير والنابغة (ليست المعلقة المعروفة وإنما: عُوجُوا فحَيّوا لِنُعْمٍ دِمْنَةَ الدَّارِ، ... مَاذَا تُحَيَّونَ مِنْ نُؤْيٍ وأَحْجَارِ) والأعشى (ليست المعلقة المعروفة، وإنما: ما بُكَاءُ الكَبِيرِ بِالأَطْلاَلِ، ... وَسُؤَالِي وما تَرُدُّ سُؤالي) ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفة. ملاحظة: كتاب الجمهرة قائم على التسبيع، ففي كل باب سبع قصائد.


إلى هنا ليس ضمن المختارات معلقات عنترة وعبيد بن الأبرص، وأما الحارث بن حلزة فلا قصيدة له إلا عند حماد الراوية، وأثبت قصيدة طويلة لعلقمة الفحل. كذلك القصائد المختارة من شعر النابغة والأعشى عند من أثبتهم ليست "المعلقات" المتعارف عليها لاحقاً.


يتفق حماد والمفضل والقرشي أن العرب لم تكن تسمي شيئا من الشعر معلقات، وإنما قد يسمون القصائد الطوال المستجادة سموطاً، فعندما يستجيدون قصيدة قد يثنون عليها بقولهم (هذا سمط الدهر) كما روي ذلك عن بعض قريش تعليقاً على قصيدة أنشدها علقمة، ثم قيل له مثل ذلك في قصيدة أخرى أنشدها بعد حول. لذا هي غير محدودة في قصائد مستجادة بعينها، ولهذا كان الاختلاف في المختار في بعض الشعراء وبعض قصائدهم.


حماد الراوية قال عن القصائد التي جمعها (هذه هي القصائد المشهورة…).

وسماها المفضل الضبي (السبع الطوال).


وجعل أبو زيد القرشي كتاب (جمهرة أشعار العرب) مقسماً على أبواب في كل باب سبع قصائد، جعل المجموعة الأولى باسم (السموط) لكن النساخ والشراح والمحققين أضافوا من بعد في عناوين قصائد هذا الباب كلمة (معلقة) عند كل قصيدة، ومما يكشف ذلك أن مختار القرشي من شعر لبيد والأعشى ليس هو ما عرف لاحقاً بالمعلقات.


الأصمعي ت216هـ في اختياراته الشعرية التي تسمى (الأصمعيات) لم يُدخل فيها شيئا من المعلقات، وروايته الموجودة في كتب الأدب لبعض المعلقات من أهم الروايات لتحرزه في تمييز الأصيل مما يشك في انتحاله ولهذا كانت هذه القصائد في روايته أقصر من روايات غيره، ولكنه لم يسمها المعلقات وإنما جاءت ضمن اهتمامه بالشعر الجاهلي عامة.


ما أثر خبر ابن الكلبي في التعليق؟


تبلور خبر ابن الكلبي للتسمية بالمعلقات إلى تعليل مفصل لاحقا عند ابن عبدربه ومن أتى بعده كالبغدادي وابن رشيق وابن خلدون، وزادوا على خبر التعليق أمر الكتابة بالذهب أو بمائه في الحرير أو في القباطي. ولعل تسميتها بالمذهبات، من تسمية عند ابن قتيبة ت276هـ في ترجمة عنترة (وكانت العرب تسميها المذهبة) بينما المذهبات في (جمهرة أشعار العرب) اسم لسبع قصائد أخرى منها قصيدة لحسان بن ثابت وقصيدة لعبدالله بن رواحة رضي الله عنهما.


ما أقدم شروح المعلقات؟


شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الأنباري ت ٣٢٨ هـ

[ليس ضمن مشروحات ابن الأنباري معلقات النابغة ولا عبيد بن الأبرص ولا الأعشى].


شرح المعلقات السبع، للزوزني المتوفي 486 هـ، أولا اسم الكتاب (شرح القصائد السبع) وتجد ذلك في حديث المؤلف عنها في المقدمة، ولكن غيّرت المطابع العنوان فأدخلت لفظة (المعلقات)، كما انه ليس ضمن مشروحات الزوزني معلقات النابغة والأعشى وعبيد بن الأبرص، ولكن الناشر أضافها إلى هذا الكتاب وبيّن هذا، حتى تحصل من الكتاب أكبر فائدة ويلقى الرواج المأمول.


شرح القصائد العشر، للتبريزي ت  ٥٠٢هـ. أضاف التبريزي دالية النابغة وبائية عبيد بن الأبرص ولامية الأعشى (ودع هريرة) بينما المعلقة المختارة له في الجمهرة لاميته الأخرى (ما بكاء الكبير في الأطلال) وحذف معلقة علقمة الفحل (طَحَا بكَ قَلبٌ في الحِسان طروبُ). وهنا فقط بلغ عدد القصائد إلى عشر.


دور النساخ في إضافة كلمة (معلقات) في كتب الأدب.


ابن قتيبة في الشعر والشعراء يسمي المعلقات (الطوال) ولكن ورد في ترجمة الحارث بن حلزة عند ذكر قصيدته: (وهي من جيد شعر العرب، وإحدى السبع المعلقات). هذه اللفظة (المعلقات) كما يقول مصطفى صادق الرافعي في (تاريخ آداب العرب): (لم ترد هذه اللفظة إلا في هذا الموضع، غير أن البغدادي نقل كلمة في "الخزانة" معزوة إليه وأسقط منها لفظة المعلقات "ص١١٩ ج١" فيكون ذكرها في طبقات ابن قتيبة زيادة من النساخ، لشهرة الكلمة في المتأخرين وارتباطها بهذا النعت).

وهذا عين ما فعله النساخ ودور النشر في كتاب (جمهرة أشعار العرب) ففي باب (السموط) أضيفت كلمة (معلقة) أمام كل قصيدة من السبع ولو لم تكن أصلاً من المعلقات، ولو كان هذا اسمها لما اختار لها المؤلف اسماً غيره. وهو ما وقع في عنوان شرح الزوزني كما أشرنا سلفاً.


الخلاصة


تطمئن النفس إلى صحة القول بأن تعليق القصائد على الكعبة زعم باطل، للأسباب التالية:

1/ عدم ذكر الأوائل لتسمية المعلقات في مروياتهم.

2/لو وجد شيء اسمه المعلقات لتغنى به الشعراء وتمنوه لجياد قصائدهم وألمحوا إليه فيها، وأنت تجد الشاعر كثيرا ما يثني على قصيدته مخاطبا الممدوح بأني نظمت فيك قصيدة هي كيت وكيت من السمو والرفعة، ولو كان للمعلقات ذكر لقال، ولو واحد منهم، إن قصيدتي هذه في مقام المعلقات. هذا لم يحدث أبدا عند شعراء العصر الإسلامي ولا الأموي ولا العباسي!

3/ يعظّم العرب الكعبة تعظيما كبيرا، فما يتعلق بها أو يحفظ فيها مقصور على متعلقات العبادة، وأما الأصنام فهي في نظرهم من متعلقات العبادة، وكذلك ما له صلة بالله كالعهود والمواثيق، فمن المستبعد جداً أن يعلقوا عليها متعلقات الأمور الدنيوية وقضايا ليس لقريش علاقة مباشرة بها، فكيف بشعر مجون مثل ما في قصيدة امريء القيس وقصيدة الأعشى!

4/ ومن علامات تنزيه الكعبة عند العرب الجاهليين عن الشعر، عدم إقامتهم لأسواق الشعر في مكة المكرمة، وإنما كان أقرب ما تعقد فيه سوق عكاظ في الطائف حيث الحل لا الحرم!

5/ زعموا بأن العرب بقيت تسجد للمعلقات ١٥٠ سنة حتى ظهر الإسلام، مع أن أقدم أصحاب المعلقات امرؤ القيس ليس بين موته وبين فتح مكة إلا أقل من ثمانين سنة، ومن أصحاب المعلقات من أدرك ميلاد النبي ﷺ ، بل منهم لبيد الذي أدرك البعثة وأسلم. أشرك العرب مع الله الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، وبئس ما فعلوا، لكنهم لم يكونوا يسجدون لما لا يتزلفون به إلى الله.

6/ كما أن الأوائل لم يتفقوا على السبع الطوال، فيختار أحدهم لشاعر قصيدة، ويختار له آخر قصيدة أخرى كما بيّنا.

7/ ولم يتفق الأوائل على شعراء ما عُرف بالمعلقات كما بيّنا. 

8/ ثم قضية تزايد القصائد المختارة مع الزمن من سبع إلى ثمان ولم تستقر على عشر إلا في القرن الخامس الهجري.


ع ح

خطبة عيد الأضحى 1446

  خطبة عيد الأضحى 1446  (تنبيه: العيد وافق جمعة ففي الخطبة فقرة بهذا) الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله ...