قول في ما تقوم عليه المواطَنة في الإسلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد، فمطلب هذا
المقال إثبات أن أكثر دولة تستطيع أن تعيش فيها باختياراتك الحرة هي الدولة
الإسلامية، بخلاف ما يظنه حتى أكثر من يحاولون تطبيق الإسلام اليوم بالتضييق على الناس
في معاشهم وحركتهم وأساليب حياتهم. ومن أدلة ذلك التالي:
1. الدليل العقلي. فالإسلام دين الرحمة للعالمين، دين
الاختيار الحر من غير إكراه، دين العلاقة المباشرة مع الله بلا وسيط. لذا تقوم
المواطنة في الإسلام على القيمة الإنسانية مجردة، فهي القاعدة الأساسية العريضة
التي يقوم عليها بنيان هذا الكائن، فمن هذه النفس البشرية تبدأ الحقوق الأساسية للمعاملة
الحسنى والعيش الحر الآمن الكريم. وقد مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم جنازة فقام،
فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: (أليست نفساً؟).
2. نصوص القرآن المحكمة، نحو: (ولقد كرمنا بني آدم)
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (إن عليك إلا البلاغ) (لكم دينكم ولي دين)
(وقولوا للناس حسنا) (ولا تجسسوا) (ما عليك من
حسابهم من شيء وما من حسابك
عليهم من شيء) (الذين إن مكناهم في الأرض
أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر) (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) (لا إكراه في
الدين قد تبين الرشد من الغي) (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) (ادع إلى سبيل
ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم
بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (إنك لا تهدي
من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (ولو شاء ربك لآمن من
في الأرض
كلهم جميعا أفأنت
تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (لا ينهاكم
الله عن الذين لم يقاتلوكم في
الدين، ولم
يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم
وتقسطوا إليهم، إن الله يحب
المقسطين).
3. السنة النبوية متمثلة في "ميثاق صحيفة
المدينة" وهي دستور الدولة الإسلامية الذي توافق عليه النبي ﷺ مع أهل المدينة
من مسلمين ويهود. هذا الميثاق به أكثر من خمسين مادة قانونية أكثر من نصفها توضح
حقوق غير المسلمين بما يمكّن كل فرد من العيش الكريم وممارسة شعائره ومعتقداته حسب
ملته، داخل الدولة الإسلامية دون مضايقة ولا حجر. ومن نماذج ما في الميثاق:
·
(وإنه
من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم)
·
(وإن
اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)
·
(وإن
يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا
من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته)
·
(وإن
ليهود بنى النجار وبنى الحارث وبنى ساعدة وبنى جشم وبنى الاوس وبنى ثعلبة وجفنة
وبنى الشطيبة مثل ما ليهود بنى عوف)
·
(وإن
بطانة يهود كأنفسهم)
·
(وإن
على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم)
·
(وإن
بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)
·
(وإن
بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم)
·
(وإنه
لم يأثم امرؤ بحليفه)
·
(وإن
النصر للمظلوم)
·
(وإن
يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة)
·
(وإن
الجار كالنفس غير مضار ولا آثم)
·
(وإنه
من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم)
·
(وإن
الله جار لمن بر واتقى)
تأمل هذا وقارنه مع وضع من آمن
ولم يهاجر، الذي أوضحه قول الحق (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من
شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم
ميثاق والله بما تعملون بصير) ليتكون لديك
مفهوم المواطنة في الدولة بما يعطي للمعاهد داخل الحدود الجغرافية للدولة
الإسلامية حقوقاً أكبر من حق المسلم غير المهاجر.
4. معاهدة نجران التي وقعها النبي
عليه الصلاة والسلام مع نصارى نجران وفيها: (ولنجران
وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله
على أموالهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل
أو كثير).
5. حقوق المعاهدين الواضحة وحقهم في العيش الكريم
الآمن، ومما يشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (من آذى ذمياً فأنا خصمه،
ومن كنت خصمه خصمته يوم
القيامة) وقوله (من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من
مسيرة أربعين عاماً) وقوله (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً
حراماً)، ومن الشواهد كذلك إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أنكحة غير المسلمين،
وتعامله معهم في كل التعاملات الدنيوية بالمعروف بيعاً وشراء واقتراضاً وارتهانا
كما يتعامل مع المسلمين في مجتمعه، ولم يأمر بمقاطعتهم أو إضعاف اقتصادهم ترغيباً
في تقوية اقتصاد المسلمين. وأما ما يدفعه غير المسلمين من ضرائب (جزية) يقابل ما
يدفعه المسلمون من زكاة، وقد يكون أقل من الزكاة، فقد جاء في كتاب النبي ﷺ إلى معاذ باليمن (خُذْ مِنْ
كُلِّ حالِمٍ ديناراً) هذه الضريبة في عام كامل ولا يوجد غيرها، وليس على النساء
والصبيان والمساكين والرهبان والعبيد وذوي العاهات جزية، وإنما تؤخذ من الرجال العاملين
القادرين على القتال ويعفون من القتال، ولمن تقدم به السن من أهل الذمة راتب من
بيت المال، بينما يدفع المسلمون الزكاة والصدقات، لينتفع بها المجتمع عامة، فمن
المنتفعين بالزكاة (المؤلفة قلوبهم) لترغيبهم في اعتناق الإسلام.
6. العهدة العمرية التي كتبها عمر لأهل القدس بعد
فتحها، ونصها: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير
المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم
وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص
منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم،
ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن
يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن. وعليهم أن يُخرِجوا منها الروم واللصوص. فمن
خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا أمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه
مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع
الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصلبهم حتى
يبلغوا أمنهم. فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء
سار مع الروم. ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى
ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي
عليهم من الجزية. كتب
وحضر سنة خمس عشرة هجرية. شهد
على ذلك: خالد
بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان). وبينما كان
عمر رضى الله عنه يملى هذا العهد حضرت الصلاة، فدعا البطريرك صفرونيوس عمر للصلاة
حيث هو في كنيسة القيامة، ولكن عمر رفض وقال له: (أخشى إن صليت فيها أن يغلبكم
المسلمون عليها ويقولون هنا صلى أمير المؤمنين). هذا العهد المنصف واضح المعالم لا
يحتاج إلى شرح.
7. مع وجود غير المسلمين في الدولة الإسلامية ووجود
التشريعات التي تضمن لهم العيش الكريم وممارسة شعائرهم بحرية ليس فيها أذى
للمسلمين أو توسع فيها أو مضارة لمن أراد الإسلام منهم، واستمرار أساليب حياتهم
التي يرتضون، ومن ذلك عدم منعهم من تعاطي ما حرمه الله على المسلمين، كشرب الخمر
وأكل الخنزير، وتداوله فيما بينهم، وإنما المحجور عليهم ايذاء المسلمين به، وتسويقه،
والمجاهرة بالمعاصي.
8. أصبحت المرأة في الدولة الإسلامية من أصحاب
المواريث الشرعية، فترث حسب منزلتها من البنوة والزوجية والأمومة وغيره، وهي في
الأصل غير مكلفة شرعاً بالإنفاق على أحد حتى على نفسها، ومن حقها التملك والعمل والسفر
منفردة مسافة ما دون يوم وليلة، والزواج بمن ترتضيه بنفسها وتختاره، وليس لأحد
إكراهها. وقد فرض الحجاب الكامل على أمهات المؤمنين، لكنه أدنى من ذلك لبقية
المؤمنات، ومن أظهر حكمته (ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين)، لأن الإماء لا يجب عليهن من
الحجاب سوى تغطية العورة، أما غير المؤمنات فلم ينزل فيهن تشريع أصلاً، ولم ترد
مطالبة لهنّ كي يتشبهن بالمؤمنات بل على العكس من ذلك، فقد ورد زجر من تفعل ذلك من
غير الحرائر المؤمنات. وكبار السن من النساء اللاتي قعدن عن الحيض والحمل يجوز لهن التخفف من الثياب. ومن أرادت من المؤمنات إنزال نفسها منزلة من هي دونها فقد
بخست نفسها حقها، ولكن لا عقوبة من الناس عليها. منع الكوافر من السفور في بلاد
الإسلام كان بالنظر في المقاصد العامة ودفع المفاسد، وأن الكافر مخاطب بفروع
الشريعة، وكل هذا محل نظر ولا يؤيده الواقع في عصر النبوة وعصور الخلفاء الراشدين،
والأدلة النقلية التي يستشهد بها المتشدد ظنية بعيدة. نعم منع إشاعة الفاحشة واجب، فوجود نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات في المجتمع خطر داهم عليه لكن هؤلاء بائعات الهوى وهذه صفاتهن يخرجن يردن الفساد والغواية، لا مجرد من تخرج وجهها أو كفها أو معصمها أو شيئاً من شعرها، فلا يخلط الحابل بالنابل، ففي ذلك ظلم شديد وسوء تقدير.
9. حرّم الله الزنا وحدّ لذلك حداً لكن تطبيقه يحتاج
إلى توفر مطالب هي أشبه بالمستحيل إلا إذا أراد الفاعل بنفسه أن تطبق عليه العقوبة
ولا تطبق على الطرف الآخر إلا باعترافه كذلك مختاراً، وينصح بأن لا يفعل، بل يستتر
بستر الله، أما ما دون الوطء من تقبيل وتلامس وغيره فلا تطبق فيه العقوبة كما حدث
في قضية المغيرة بن شعبة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وإنما الويل للشهود
بتطبيق حد القذف عليهم جلد ثمانين جلدة وعدم قبول شهادتهم مستقبلا. وثبت في السُّنة
أنَّ رجلًا أصاب من امرأةٍ قُبلةَ حرامٍ ، فأتَى النَّبيَّ ﷺ، فسألَه عن
كفَّارتِها؟ فنزلت (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فقال الرَّجلُ : ألي هذه
يا رسولَ الله؟ فقال : (لك ولمَن عمِلَ بها من أُمَّتي).
10.لم يتتبع النبي ﷺ من يمارسون كبائر الذنوب بل قال
للرجل الذي أشار على ماعز الأسلمي أن يأتي إلى الرسول للاعتراف بالزنى (يا هَزَّال
لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك)، وقال في حديث آخر (كلُّ أمَّتي معافى إلا
المجَاهرين، وإنَّ من المجَاهرة أن يعمل الرَّجل باللَّيل عملًا، ثمَّ يصبح وقد
سَتَره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا. وقد بات يَسْتُره
ربُّه، ويصبح يكشف سِتْر الله عنه)، وقال (مَن نفَّس عن مؤمن
كُرْبة من كُرَب الدُّنيا، نفَّس الله عنه كُرْبة من كُرَب الآخرة، ومن سَتَر على
مسلم، سَتَره الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون
أخيه)، وقال (يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا
المسلمين، ولا تتبعوا عَورَاتهم، فإنَّه من اتَّبع عَوراتهم يتَّبع الله عَوْرته،
ومن يتَّبع الله عَوْرته يفضحه في بيته)، ومن جاء معترفاً بزنا أعرض عنه حتى يصر على
اعترافه فيتحقق من عقله. وتأمل قول الحق (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
فإنها تتحدث عن فعل بعض أهل المدينة، فأتى النهي، ولم يشرع التتبع والتجسس ولا
العقوبات الدنيوية. وهكذا في مسألة الصلاة فلم يؤسس النبي ﷺ شرطة دينية تأطر الناس
على الصلاة أو تقفل الأسواق وقتها. تقوم طاعة الله على الرغبة الشخصية من غير
إكراه، وإلا لما كان هنالك أجر.
11.عدم تتبع عورات الناس فيما يفعلونه بأنفسهم وقد عاش
ذكران مخنثون تصرفاتهم تصرفات النساء في المدينة وأسماؤهم فيها ليونة كماتع وهيت
في عصر النبي ﷺ، وكان منهم من يدخل على نساء النبي ﷺ، كونهم من غير أولي الإربة من
الرجال، كما حدث في قصة هيت التي روتها أم سلمة رضي الله عنها حين سمعه الرسول ﷺ
يصف امرأة من الطائف لأخ أم سلمة وصفا جنسيا يقول فيه "تقبل بأربع وتدبر
بثمان" فبعد أن سمع النبي ﷺ ذلك منه منعه
من دخول بيوت نسائه، وأقصى ما فعله به أن أخرجه من مركز المدينة إلى بعض ضواحيها
(البيداء) ولم يفعل مثل ذلك مع البقية وإنما تركهم وشأنهم. هذا فيمن هم هكذا فطرة، كما اعترف الإسلام بحقوق الخنثى وحدد الفقه صنفيها المشكل وغير المشكل وطريقة التوريث والزواج. أما من يعمل بعمل قوم لوط فملعون ويحد بشرع الله.
12.استمر الطرب واللهو في المدينة في عصر الرسول ﷺ مع المسلمين
ومع اليهود وغيرهم ولم يمنعهم الرسول ﷺ بالقوة عنه، بل اعترف به لأهل المدينة عامة
وأنهم يحبون الطرب فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان في حجري جارية
من الأنصار فزوجتها، فدخل عليَّ رسول الله ﷺ يوم عرسها، فلم يسمع غناء ولا لعباً،
فقال: (يا عائشة، هل غنيتم عليها؟ أو: لا تغنون عليها؟! ثم قال: إن هذا الحي من
الأنصار يحبون الغناء). وقال لأبي بكر رضي الله
عنه عندما اعترض على ابنته عائشة وفي بيتها جوارٍ يغنين في يوم عيد: (يا أبا بكر
إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا)، وعن بريدة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ﷺ في بعض
مغازيه، فلما انصرف، جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردك
الله صالحا، أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى! فقال لها رسول الله ﷺ: (إن كنت نذرت
فاضربي وإلا فلا. فجعلت تضرب الخ الحديث)، ولا يردّ هذا بأنه وفاء بنذر، فإن النذر
بمحرم باطل، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان الجواري إذا نكحوا، كانوا
يمرون بالكبر والمزامير، ويتركون النبي ﷺ قائما على المنبر وينفضّون، فأنزل الله: (وإذا
رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) فكان النهي لهم عن ترك خطبة الجمعة لسماع
الغناء لا عن الغناء، والكبر هو الطبل، وعن عامر بن سعيد البجلي قال دخَلتُ على
قَرَظةَ بنِ كعبٍ، وأبي مَسعودٍ الأنصاريِّ في عُرسٍ، وإذا جَوارٍ يُغنِّينَ،
فقُلتُ: أنتُما صاحِبا رسولِ اللهِ، ومن أهلِ بدرٍ، يُفعَلُ هذا عندَكُم؟ فقال:
(اجلِس إنْ شئتَ، فاسمَع معَنا، وإنْ شِئتَ اذهبْ، قَد رخَّصَ لنا في اللَّهوِ
عندَ العُرسِ)، وورد السماع بطرب عن حسان بن ثابت وحضوره مجالس الغناء بشعره فيبكي
وجداً، وورد عن عبدالله بن جعفر أنه كان يصوغ الألحان لجواريه، وفي مصنف أبي شيبة
يقول حدثنا شريك عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس أنه
ختن بنيه فدعا اللاعبين فأعطاهم أربعة دراهم أو قال: ثلاثة. ويعنون باللاعبين المغنين بمصاحبة الآلات الموسيقية من مزهر وقضيب
وطبل ودف وغيره، ولعبدالله بن الزبير جوارٍ عوّادات، وورد السماع عن ابن عمر وابن
مسعود وزيد بن ثابت وطائفة من الصحابة وروايات عن كبار علماء التابعين كابن سيرين
وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي. ينظر رسالة ابن حزم في السماع، ورسالة أبي
منصور البغدادي في السماع، وايضاح الدلالات في سماع الآلات لعبدالغني النابلسي،
والفتح الرباني من إجابات الإمام الشوكاني ص 5205 وما يليها رسالة كاملة في فتاويه،
ويقول ابن تيمية في فتاويه (وأما غناء الحرائر للرجال بالدف فمشروع في الأفراح
كحديث الناذرة وغناها مع ذلك). نعم ينبغي على المؤمن أن لا يشغله اللهو واللعب،
ولكن وجوده في المجتمع أمر حتمي إلا بالقهر والإكراه لأنه مطلب غريزي فطري، فالفنون
الموسيقية والغنائية مكون ثقافي في حياة كل أمة، وهي متفقة مع طبيعة هذا الكون من
حفيف الشجر وخرير المياه وتغريد الطيور وحركة الرياح وحداء الشعر وغيره، بما يساير
الحاجة الفطرية للإنسان في الترويح (يا حنظلة ساعة وساعة) فالظاهر عند الجمع بين
الأدلة أن الملهي عن ذكر الله وعن الصلاة هو المحرم وأن لا يكون الغناء بكلام محرم.
13.الأعظم من هذا كله هو تصرف الرسول ﷺ مع المنافقين،
فهؤلاء كانوا يعملون على هدم الدولة والقضاء عليها (هم العدو فاحذرهم) (يبغونكم
الفتنة)، وأخبره الله سبحانه بأسماء بعضهم وقال له عن البقية (ولتعرفنهم في لحن
القول) ومع ذلك لم ينتقص لهم من حق المواطنة شيئا، ولم يقتلهم ولم يطردهم، ولم
يتجسس عليهم، بل كان يكرمهم ويصفح عنهم، ويهتم بنظرة العالَم الخارجي عن دولة الإسلام
فقال عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي)،
فتأمل!
14.لو كانت الردة توجب القتل لقتل النبي ﷺ المنافقين
الذين ثبت له كفرهم وردتهم عن الدين بصريح القرآن (كفروا بعد ايمانهم) (وكفروا بعد
إسلامهم) (ارتدوا على أدبارهم)، ولكن القاعدة (لا إكراه في الدين).
15.الجهاد في سبيل الله رغم وجوبه إلا أن المتخلف عنه
لا يعاقب. في غير الدولة الإسلامية هذه خيانة عظمى تستوجب الإعدام.
الخاتمة:
أسلمة نظام الحكم مثل أسلمة
التجارة والاقتصاد والطب والتعليم وغير ذلك، المطلوب فيه ليس هدم الأنظمة المعهودة
عند الناس والإتيان بنظام جديد تماماً، وإنما الهدف تحرير هذه الأنظمة من الظلم
فقط أياً كان شكل هذا الظلم، بتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى، ثم يجتهد الناس في تطبيق
الأنظمة الملائمة لهم وتطويرها حسب ما يناسبهم بما لا يخالف شرع الله.
تقوم المواطنة في نظام الحكم الإسلامي
على أساس (لا إكراه في الدين)، وللناس أن تمارس حياتها وفق ما تراه أنسب لها، ما
لم يضروا غيرهم، وعلى الدولة حمايتهم وصون كرامتهم، مع الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر بالتي هي أحسن، والدار الآخرة هي دار السعادة التي لا لغو فيها ولا تأثيم.
غالب علاقة المحاسبة في حياة
الإنسان في الإسلام هي بين الإنسان وربه، ما لم يعتدِ على غيره من البشر. خلال
مخالفات الإنسان الشرعية يمهل الله الإنسان وينبهه على خطاياه وقد تنزل عليه
عقوبات حتى يرتدع فإن تاب وأصلح كفّر الله عنه خطاياه وإلا أخذه أخذ عزيز مقتدر،
فالأمور وإن لم تتدخل فيها رقابة البشر ليست هملاً.
القضية الكبرى في الدولة
الإسلامية هي كسر الطاغوت، بما تحمله كلمة (لا إله إلا الله) من سلطان، فلا سلطان
لأحد من البشر عليك إلا ما فيه ظلم لغيرك وعدوان عليه.
قضية ايمان الإنسان اختيارية محضة
فلا متحكم فيه غير الله سبحانه وتعالى، ولكن دورالمؤمنين: (الذين إن مكناهم في
الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة
الأمور) فإذا ما (تبين الرشد من الغي) فقد انتهى دور المصلحين وليس لهم إكراهك على
ما لا تريد ولو ملكوا القدرة على الإكراه. أما التعزير بعقوبات لمخالفات شرعية لم
ترد فيها حدود فأمر مبتدع بعد عصر النبوة، وتمكن مراجعته.
إن كانت الأمنية أن يكون الناس
على أتقى قلب رجل مؤمن، بلا خطايا، فتصافحهم الملائكة في الطرقات، فإن الطبيعة
البشرية مجبولة على غير ذلك، وفي مجتمع فيه ملايين البشر لا بد أن يتفاوت الناس،
ودور المصلحين التبليغ والتذكير وأن تفتح لهم المنابر وتغلق عن أهل الفساد، وأن
ترخي الدولة في ما ليس فيه تجاوز لحد من حدود الله وتغض الطرف ما استطاعت، كما هو
الحال اليوم بدول إسلامية عديدة ولله الحمد، وإلا فلا مناص إلا من اتخاذ شرطة
دينية تعذب الناس في الطرقات على خصلة شعر تظهر من فتاة، أو دكان مفتوح أثناء
صلاة، أو عود يضرب في حفل، وسيؤخذ الناس بالظن كما رأينا في تجارب من حاول ذلك فكان
سبباً لكره كثير من الناس لدين الله والإلحاد فيه ومعاداة المصلحين.
خلاصة القول المقصد من هذا كله تقديم
الإسلام للناس بتلك السياسة التي خط دستورها النبي ﷺ بقوله (معاذ الله أن يتحدث
الناس أني أقتل أصحابي) دين تيسير وسماحة تميل إليه النفوس فلا ينفضّ الناس فيه من
حول أهله، ( فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ
لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ
فِى الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). وفي الحديث "إِنَّ
اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى
العُنفِ، وَما لا يُعْطِي عَلى مَا سِوَاهُ" وقال " إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في
شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ" وقال "يَسِّرُوا
وَلا تُعَسِّروا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا" وقال "مَنْ يُحْرَمِ
الرِّفْقَ يُحْرمِ الخيْرَ كُلَّهُ"، وبَال أَعْرَابيٌّ في المسجِد، فَقَامَ
النَّاسُ إِلَيْه لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ ﷺ: "دَعُوهُ، وَأَرِيقُوا عَلى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ،
أَوْ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ، فَإِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرِينَ ولَمْ تُبْعَثُوا
مُعَسِّرِينَ". ومن القواعد المقررة أن
الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.
إنّ أكثر دولة تستطيع أن تعيش
فيها حياتك باختيارك الحر في كل شيء من غير إكراه ولا تجسس ولا عقوبة على النوايا
حتى تتبلور إلى أعمال شرعت فيها العقوبات هي الدولة الإسلامية.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على
الرحمة المهداة للعالمين محمد صلى الله عليه وسلم.
ع ح