بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى وصلاة
وسلاما على المصطفى أما بعد
فهذا تأصيل موجز لموضوع
نصر الأقليات المسلمة المضطهدة.
جرت العادة في العصر
الحديث أن يخرج خبر عن اضطهاد أقلية مسلمة في بلد ما، وقد لا نعرف عنهم شيئاً
البتة قبل ذلك، فنبدأ بكتابة المقالات المنادية بوجوب نصرة إخواننا والوقوف معهم
في محنتهم، فتجمع لقضيتهم الأموال وينطلق أهل الخير زرافات ووحدانا، لنصرة إخوتهم
إعلامياً وإغاثياً، وكثيراً ما يتطور الأمر إلى مؤازرة عسكرية، إما بالتمويل السري
لفرق عسكرية أو شبه عسكرية من أبناء الطائفة المضطهدة أو بنفير أفراد من دولنا
تتسلل للقتال وتنظم صفوف شباب من المضطهدين ليقاتلوا لأخذ حقوقهم بقوة السلاح،
وكائن رأينا من زعامات عربية عسكرية طويلة شعر الرأس كثة اللحى تسطر ملاحم البطولة
والشجاعة تذكرك بعمران بن حطان وقطري بن الفجاءة، فنتغنى بأسمائهم ويكثر الحديث عن
نصر الرحمن لأوليائه، وإذا ما قتل أحدهم صورناه لنري العالم ابتسامته وما تعنيه من
حضور ممثلين من العالم الأخروي لاستقباله.
هذا الحال يتكرر بلا
حاجة منا للتدليل على مواضعه، لكن النتيجة واحدة في كل مرة، ألا وهي تصنيف الفئة
المضطهدة جماعة إرهابية خارجة على القانون، وتبدأ تصفيتها المنهجية بلا رحمة ولا
هوادة، فيذبح الأطفال والنساء والرجال وتدمر مدن، ويشرد من بقي منهم، ليصبح الحال
أسوأ مما كان عليه قبل تدخلنا، ودائماً ما يختفي الكائن العربي الأسطوري طويل
الشعر كث اللحية صاحب الملاحم من المشهد، لينبع في بؤرة أخرى أكان هو ذاته أو من
نهج نهجه ليبدأ نفس المسلسل ونحصل على ذات النتيجة.
أين الخلل؟
لقد تعلمنا من القرآن
قول الحق: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا
وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا
ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
والولاية هنا ليست الموالاة القلبية، إذ يجب على
المؤمن محبة أخيه المؤمن أينما وجد، لكن الولاية هنا بكل وضوح هي ولاية المسؤولية.
نعم هذه الآية تتحدث في الأصل عمَّن لم يهاجر إلى المدينة المنورة في زمن وجوب
الهجرة إليها، وبقي في دار الكفر، لكن من هَجْر القرآن ترك تنزيل أحكامه في
الحالات المشابهة.
وتعلمنا من السنة النبوية على صاحبها أفضل
الصلاة وأتم التحية أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو أتى يرسف في قيوده بعد صلح
الحديبية، فردّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المشركين مع احتمال قتله التزاماً
بالعهد الذي بينه وبين المشركين أن من يأتيه مسلماً منهم يرده إليهم، وهكذا فعل مع
أبي بصير في الأولى، وفعل معه ذلك حتى مع تتميم عهده حين أتاه الناجي ممن الرجلين
المشركين الذين سلمهما إياه مذعوراً بعد أن قتل صاحبه، فقال الرسول صلى الله عليه
وسلم قولته "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد" فعرف المسلمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم لن يجير أبا بصير ولن يؤويه، فخرج أبو بصير من المدينة إلى ناحية
البحر وسمع بأمره أبو جندل فلحقه هناك ولحق بهم من لحق يعترضون قوافل قريش حتى
توسلت قريش النبي بالله والرحم لإلغاء هذا البند من الاتفاقية.
وتعلمنا من الواقع أن الدول اليوم بينها
اتفاقيات إما ثنائية وإما جماعية أكان عبر الأمم المتحدة أو غيرها من المؤسسات، وكثيراً
ما تتطور الاتفاقات إلى درجة تبادل السفراء، بما يوجب على كل منها عدم التدخل في
شؤون الدولة الأخرى، وأولى الناس باحترام العهود والمواثيق نحن أهل الإسلام،
والاستسلام لأمر الله لا يجلب إلا الخير كما حدث في صلح الحديبية.
وتعلمنا من الطبيعة
البشرية أنه لا توجد دولة ترتضي أن تتدخل دولة أخرى أو أفرادها فيما تعتبره شؤونها
الداخلية، فما لا نرضاه لأنفسنا لا ينبغي أن نتوقع من الآخرين رضاه لأنفسهم، وإن
تجاوزنا هذا الخط الأحمر فلن تكون النتيجة إلا تهييج تلك الدولة غيرة على سيادتها
على تلك الأقلية لتسحقها بعد أن وفرنا لها بتدخلنا المبررات والغطاء القانوني الذي
تحلم به، وفي المقابل لا نقدم بعد ذلك للمستضعفين سوى ذرف الدموع ونشر صورهم.
وتعلمنا من تصاريف
الدهر أن هناك فئة شيطانية تعمل على استغلال الظروف لإلهاب العواطف بما يجلب على
الناس المزيد من الشر، ويخلط الحق بالباطل، فتثور فتن كقطع الليل المظلم تسفك فيها
الكثير من الدماء ويصبح الحليم فيها حيران.
إن التصرفات العاطفية التي
لم تؤسس على عقل وحكمة وهداية من الله لا تجلب النصر والتمكين ولو تلألأت شعاراتها
وعلا طنين خطبها، وما ينبغي علينا فعله تجاه إخواننا المستضعفين هو أن نأتي البيوت
من أبوابها، فنرسل وفوداً رسمية إلى أعلى سلطة سياسية بالدولة المعنية نعرض عليها
المساعدة بحلول عملية منطقية فيكون تعاملنا مع قيادة الدولة لا مع أحبتنا فيها،
ولو أردنا تبليغ درهم أو دينار فنسلمه رسمياً لزعامة تلك الدولة لا بالتسلل الداخلي،
لأن هذا التسلل لا يؤتي سوى تكليب الدولة على أحبتنا. وإذا لم تفلح السبل ورأينا
الحرب واجبة ولدينا القدرة عليها نبذنا إليهم عهدهم على سواء وقمنا بحرب خاطفة
ترجع الأمور إلى نصابها، ولكن هذا الأخير أقرب إلى الأحلام منه إلى الواقع في
عصرنا هذا لأن كل الدول المسلمة اليوم عليها إصلاح أوضاعها وأوضاع أقلياتها أولاً
قبل أن تحاول إصلاح أوضاع غيرها.
ختاماً إن اكثر ما نقوم
به أو نقدمه نصرةً للأقليات المسلمة مما هو سببه العاطفة، وإن حسنت النية، يضل
طريقه أو يقع في غير محله لأسباب متعددة ليس أقلها انه في أصله مسيّس لتقاطع القضية مع مصالح
أنظمة شيطانية، فتزداد به الازمة سوءا، والنار اشتعالا، والعدو كيدا
وضراوة، ويذهب الشباب وقوداً لحروب ظاهرها الله وباطنها الشيطان، فتأتي النتيجة
عكسية، وكائن رأينا هذا الأثر العكسي ولا نتعظ، فالله المستعان.
هذا وصلى الله وسلم
وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
عبدالله بن حمدان بن
حمود الإسماعيلي