الجمعة، 5 مايو 2017

هنا بك عيش حيثما أنت نازل




بسم الله الرحمن الرحيم
1
هَنا بِكَ عَيشٌ حيثُما أنتَ نازلُ
وتَحْلو وإنْ طالتْ إليكَ المَراحلُ
2
أحييكَ مُختاراً صَفياً مُعظَّماً
وحوليَ غنّت بالتحايا البَلابلُ
3
 هُنا المتنبي والجميلُ وجَرْوَلٌ
هنا عُروةٌ والشَّنفرى والسَّمَوألُ
4
 يُحَيوُّن من أهدى إلينا قصيدةً
حبيبُ بنُ أوسٍ حولَها يتمايلُ 
5
 وكلُّهمُ أرخى ذؤابةَ شِعرهِ
لذاتِ خِمارٍ، ما جريرٌ وأخطلُ؟!
6
 تُذكِّرني بالعِينِ وَجهاً ومَنطِقاً
ومِن عَينها أُشفى وأَصحو وأّثْمَلُ
تُناشد شِعراً كيف حالي بدونِها
وقد مَنعتْ عني الذي كنتُ أأمُلُ
8
 تُثيرُ بألغازٍ: أغادَر دونَنا؟
وهل تحتوي فضلَ المدينةِ حَلحَلُ؟
9
 تُرَجِّي بَقاءً للوِدادِ مع الجَفا
وغرسٌ بلا سُقيا فلا شكَّ ذابلُ
10
وِصالُ أمانينا حقوقٌ أصيلةٌ
فما حَقُها في الهَجرِ إلا البَواطلُ
11
ولكنَّ وَعدي أنْ أفي بِرَجائها
وقد سَألتْ إمَّا تَزِلُّ فأغْفُلُ
12
وها هي أرْخَتْ دون عيني سِتارها
وَزَمَّت بليلٍ ما به القلبُ مُبْتِلُ
13
تَجُول كمِثْلِ الطيرِ حُراً جناحُهُ
وتسعى بلا رأيي وترقى وتَنْزِلُ
14
أعاتبُ نَفسي أنْ تَخَيّرْتُ صَاحباً
يَراني خِياراً، وهو عنديَ أولُ
15 
ضريبةُ عِشقِ المرءِ حُزنٌ ولوعةٌ
وليس له عن طَعْمِ ذلك حائلُ
16
ولكن لأنَّ الحبَّ أعمى بلا حِجا
فتلقاهُ حتى بالهوى يتفاءلُ
17 
وآلامُ مَسرى الحُبِّ أشهى لعاشقٍ
من اليُسرِ واللذاتِ لوْ كان تَحْصُلُ
18
إذا الجُرحُ أدمى القلبَ بَشّرَ عقلَهُ
فيَنسِجُ آمالَ الرَّشادِ ويَغزِلُ
19
فلا رُشْدَ إلا بالجِراحِ وغُصةٍ
بَواقِيهما أجدى لوعظٍ وأَجْزَلُ
20
فيا ويحَ عَهدي شافعاً دون فِعلها
يقول وَقَاكَ الغدرَ أصلٌ ومنهلُ
21
فناشدتُ عنها النجدَ والسهلَ والغَضى
وردّ صدى صوتي الدَّخولُ وحَوْمَلُ
22
وساءلتُ كلَّ الأرضِ هل فيك ثابتٌ
أفيكِ لمن خافَ القِلى مُتَعَزّلُ؟
23
إذا نكثوا عهدَ الوفاءِ فعهدُنا
لعَمْري متينٌ لا تَنِيهِ القَلاقِلُ
24
نُقيمُ كِراماً لا على الضَّيمِ والأذى
ونحن حِرابٌ للحروب وأَنْصُلُ
25
نُعِدُّ لتثبيتِ السَّلامِ سلاحَنا
وللسِّلْم إلزاماً تُعَدُّ القنابلُ
26
لنا عزماتٌ يا ابنةَ القَرْمِ لا تَنِي
فإمَّا تَوَدَّدنا فلا نَتَسَوَّلُ
27
أدُرُّ استفيقي من دَلالٍ وصَبوةٍ
فليس بِعيشي مِثْلَ هَجْرِك حَنظلُ
28
أَكُفُّ جِماحَ النَّفسِ عَمَّا يَشِينُها
ولو شَقَّ نَحَرَ الشوقِ بالدمعِ جَدولُ
29
عَجَمْتُ قَناتي بالتَّصبرِ والرِّضى
وقد أَنْضَجَتْ قلبي مِن الرُّزْءِ مِرْجَل
30
فها أنا يَمَمْتُ الهُدى في مَسيرتي
لنَحوِ رَسولِ الله نِعمَ التَّحَوُّلُ
31
فآويتُ للحُسنى بِقُرْبِ محمدٍ
فما مِثلُهُ بَرَّاً نبيٌ ومُرْسَلُ
32
ففي كلِّ أَزْمَاتي أراهُ بِجانبي
فيَخْمُدُ بُركاني وتَهدا الزلازلُ
33
بِنفسيَ أَبني مِدْحةً فيك سيدي
فيا ربِّ أَسعفني بما أنا قائلُ
34
أُريدُ مَناراً يَنفع الناسَ نُورُه
أريدُ بأنْ آتي بِما هو أَجملُ
35
ولستُ سوى فَردٍ يُحبُّ محمداً
ولكنَّني أُصفيهِ فيما أُحاولُ
36
فلم أَمتدِح يوماً بشعريَ سَيِّداً
بقصد اغترافٍ من جَدَىً هو زائلُ
37
أماميَ حسانٌ وكعبٌ وبردةٌ
ونهجٌ عليها، والقريضُ هَواملُ
38
هنا صادقُ التبجيل، وابنُ رواحةٍ
هنا البُرَعي في مَدحِ طه يُجَلْجِلُ
39
هنا الملأُ الأعلى، وجبريلُ نازلٌ
بما خُتمتْ فيهِ الهُدى والرَّسائلُ
40
وهل فوقَ ما جاءتْ به الآيُ مِدحةٌ؟
ويا عُظْمَ ما أثنى عليه المُنزّلُ!
41
إمامي رسولَ اللهِ سيدَ شِرعتي:
عليكَ سلامٌ بالمدى يَتسلسلُ
42
عليك سلامُ الله في صلواتنا
عليك صلاةٌ وجهُها يَتهللُ
43
إذا كان يُستسقى بِوجهِك سيدي
فإني بِنَعلِ المصطفى أتوسلُ
 44
إليك رسولَ اللهِ خَبّتْ مَطيَّتي
أواصلُ مَجداً أصَّلَتْهُ سَمائلُ
 45
أُرَجِّي اغترافَ النورِ يا مَنبَعَ الهدى
وفضلُك بحرٌ لا يُرى منه ساحلُ
46
وإنَّك كالشمسِ التي دامَ خيرُها
ولو بَقيَتْ في أُفقها تَتَرحَّلُ
47
وكلُّك خيرٌ يا أبا الخيرِ والهدى
وأَدناك أرقى من عظيمٍ يُبجَّلُ
 48
وذِكرُكَ بين الخَلْقِ أنتَ فريضةٌ
وغيرُك أقصى ما يَفِيهِ النَّوافلُ
49
فبَعثُك خَتْمٌ للدِّيانة كُلِّها
وشَخصُك أزكى ما به العَينُ تُكحَلُ
50
تَشَرَّفَ هذا الكونُ أنْ كنتَ بَعضَهُ
ومَاستْ إذ التفَّتْ عليك الفَضائلُ
51
حياتُكَ نبِراسٌ، وهديُكَ سُنَّةٌ
ونُطقُكَ قرآنٌ، وحُكْمكَ فَيصلُ
52
فإنْ كان خيرُ الناسِ أَرفقَهمْ بِهمْ
فأنت النبيلُ السيدُ المُتَغافلُ
53
وإنْ كان أقواهُمْ أولو الصبرِ في البَلا
فما حَمَلوا مِعشارَ ما أنتَ حَاملُ
54
وإنْ كان أندى الناسِ أفضلُ جِيرةً
فأنت رياحٌ مرسلاتٌ ووابلُ
55
وإنْ قِيس حَجمُ القُطْبِ في خلفائهِ
ومن يقتفي نَهجاً، فأين المُماثلُ؟
56
فصحبُكَ والماضون خَلفَكَ دائماً
لهم في متون السَّبْقِ أيدٍ وأرجُلُ
57
تَخَيّرك المولى وأَصفاك رُتْبَةً
فما قيلَ من وَصفٍ فوصْفُك أَكْمَلُ
58
أَتَيتَ وأمرُ القومِ فوضى وضِلَّةٌ
وغادرتَنا والصالحاتُ المناهلُ
59
تَركتَ لنا إرثاً سعادتُنا بهِ
وليس لنا من قَبْل إلا التَّقاتُلُ
60
وليت بني الإسلام عَضُّوا بِنَاجذٍ
على السُّنةِ الغَّراءِ لكنْ تَزَيَّلوا
61 
هُدى أحمدٍ سِربالُ كُلِّ فَضيلةٍ
فيا حُمقَ من يَعرى ولا يتسربلُ
62
ونحن -نبيَ الله، واللهُ شاهد-
توابعُ للأصحابِ، أسدٌ بواسلُ
63
لدينا جُموعُ الصالحينَ غَفيرةً
وفينا من الطاقاتِ ما هو هائلُ
64
فنسألك اللهم ربَّ محمدٍ
لأمتِهِ وِفْقاً لما هو أَمْثَلُ
65
وأنْ يَبسطوا في الناسِ رحمةَ ربِّهمْ
ودينُك يا رباه بالبِرِّ شاملُ
66
فتعلو موازينُ العدالةِ والهدى
وليس لما يُعلي المهيمنُ خاذلُ
67
وبلِّغ تحايانا صفيَّكَ أحمداً
صلاةً وتسليماً له يَتواصلُ
68
وإنْ تمّ هذا القولُ ما تمَّ حَقُّهُ
وحقُّ رسولِ اللهِ ذِكْرٌ مرتّلُ
69
وَذِكْرُ رسولِ الله رَوحٌ وراحةٌ
وَذِكْرُ رسولِ الله عطرٌ ومَنْدَلُ
70
لهذا إذا قلنا بِطهَ مَدائحاً
فلا نَنتهي حتى نَفيءَ نُبَسْمِلُ
عبدالله بن حمدان بن حمود الإسماعيلي


📖 العمارة البلاغية لقصيدة "هَنا بكَ عيشٌ"

مقدمة

تُعد قصيدة "هَنا بكَ عيشٌ حيثُما أنتَ نازلُ" نموذجاً رفيعاً للشعر العربي المعاصر، يجمع بين أصالة الإيقاع وقوة البناء المعماري. إنها عمل أدبي لا يكتفي بالجزالة اللغوية، بل يرتكز على نظرية "النظم" عند عبد القاهر الجرجاني، حيث لا يُطلب الجمال في الألفاظ المفردة، بل فيما تولده صياغة الجمل من "معنى المعنى" العميق. وتبرز في القصيدة غاية الشعر التي نادى بها حازم القرطاجني، وهي التخييل الشريف وقوة الإنهاض، أي تحريك النفس ونقل المتلقي إلى السمو والاتباع؛ إذ الشعر عنده ليس باللفظ وحده، بل بما يُحدثه في النفس من الانفعال والتأثير الذي يُغيِّر الحالة التي كانت النفس عليها. إن هذه الدراسة لا تقتصر على النظريات الحديثة، بل تحتكم إلى المناهج المؤسسة للنقد، مثل منهج ابن قتيبة، الذي يرفع النص إلى أعلى طبقات الجودة بناءً على المعيار الفني الصرف دون عصبية للقديم أو الحديث. تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة معمقة في بنية القصيدة، تثبت من خلالها أنها ليست مجرد تجربة فردية، بل هي رحلة روحية متكاملة تُوظف فيها تقنيات النقد العربي، وتتقاطع مع أحدث الأطر النقدية العربية والعالمية، مؤكدةً بذلك شهادتها على حيوية البلاغة العربية.


أولاً: النظم والتصوير

تمثل القصيدة نموذجاً لـ "عبقرية التركيب" التي تجمع بين أغراض شعرية متعددة بنسيج متماسك يحقق مبادئ: الانسجام، والتوازن، والعمق، والتحول التدريجي. إنها لا تكتفي بالجزالة، بل تحقق توازناً موضوعياً بين: العاطفة والعقل، والديني والدنيوي، والعقلي والروحي، والشخصي والجماعي.

1.      روح اللاميات وتشكيل الذائقة: إن المتأمل الخبير في الشعر يجد في هذه اللامية طعم وروح المدائح النبوية وجماليات "اللاميات" الكبرى في تاريخ الأدب. وتجلّى الحس التاريخي لدى الشاعر من خلال الأسلوب الذي يربط تجربته الحديثة بمسيرة فحول الشعر، واستدعاء أسماء بعضهم والتناص مع آخرين. إن هذا الاستدعاء ينهض بالنفس إلى انتماء مجيد، قبل الوصول إلى المراد الأعظم وهو مدح خير البرية محمد عليه أزكى الصلاة وأتم التحية.

2.      جمالية التدفق والعمق: حققت القصيدة "جمال التدفق" بانسيابية التحول من الحب الأدنى إلى الحب الأسمى دون قطيعة أو نشاز. كما حققت "جمال العمق" عبر ثلاث طبقات متداخلة من المعنى تتشابك عضوياً:

·       السطح: قصة حب وبداية وجدانية.

·       الوسط: رحلة نفسية وحكمية، تتضمن فلسفة العشق والألم والتحول الفكري في الأبيات 15-19.

·       العمق: رؤية حضارية إسلامية كغاية أخيرة.


ثانياً: هندسة البناء وتوزيع المقاطع

يُعد البناء الهيكلي للقصيدة دليلاً على الصنعة المحكمة البعيدة عن العشوائية. إذ اعتمد الشاعر ما تعرفه بعض مدارس النقد باسم "التوزيع الذهبي" في تقسيم المقاطع، مما يعكس توازناً محكماً في العمارة:

·       المقدمة الغزلية (الأبيات 1-9): استهلال عاطفي مثير، يمثل حوالي 21% من القصيدة.

·       الانتقال الحكمي (الأبيات 10-23): مزج بين الحكمة والوجد والألم، يمثل حوالي 21% من القصيدة.

·       التحول الروحي والمديح (الأبيات 24-70): تحول كامل نحو المديح النبوي والرؤية الحضارية، وهو جوهر القصيدة يمثل حوالي 58% من القصيدة.

هذا التقسيم (نسبة 1:1:2 تقريباً) يمنح القصيدة توازناً هيكلياً، حيث يخصص الوزن الأكبر للغاية الروحية المطلقة.


ثالثاً: معمار المدح: من التفوق النسبي إلى التفوق المطلق

تخلق القصيدة كائناً أدبياً فريداً هو "الشاعرة الحورية" كرمز للكمال النسبي. وهذا الكمال الأنثوي المزدوج هو حجر الزاوية في الترابط العضوي والتحول الروحي للقصيدة.

1.      الكمال الأنثوي المزدوج:

·       الإبداع والشعر: شعرها يفوق فحول الشعراء، "وَكُلُّهُمُ أَرْخَى ذُؤَابَةَ شِعْرِهِ لذاتِ خمارٍ".

·       الجمال الرمزي: يتجاوز وصف الجمال الدنيوي إلى الرمزية الأخروية في الحور العين.

·       العلاقة الوجدانية (الإنهاض العاطفي): الألم في العلاقة يصبح درساً، كما في البيت 15: "ضَرِيبَةُ عِشْقِ الْمَرْءِ حُزْنٌ وَلَوْعَةٌ" وما يليه. هذا يُنهض النفس عاطفياً، إذ أن الوضع المؤلم لا يُدمِّر، بل يُنتِج رشدًا ووعيًا وسموًا، وهو من أرقى درجات التخييل الذي يُحَرِّك القلب من انقباض إلى انبساط.

2.      عبقرية الانتقال (التمهيد المتضاعف): جاء تنسيق الغزل تمهيداً منطقيا محكماً للمديح النبوي، لأن هذا التفوق العظيم النسبي يفتح الطريق أمام التفوق الأعظم المطلق لسيد الخلق، مما يثبت منطقية الانتقال وتماسكه.


رابعاً: هندسة المداخل والمخارج (الاستهلال والتخلص والقفلة)

يُعد المطلع والتخلص والقفلة معياراً لفحولة الشاعر واقتداره على هندسة القصيدة وتأثيرها النفسي:

1.      براعة الاستهلال: "هَنا بِكَ عَيشٌ حَيْثُمَا أَنْتَ نَازِلُ / وَتَحْلُو وَإِنْ طَالَتْ إِلَيْكَ الْمَرَاحِلُ"هذا من زاهيات المطالع إذ جاء فخماً رشيقاً متيمنا بالهناء من أول لفظة، جاعلاً المخاطب سبب هناء العيش حيثما حلّ وارتحل، والقصد إليه حلو ولو طال الطريق إلى بلوغه. هذا على المعنى المجرد لكن الشاعر لم يكتف بهذا مع جماله، حتى أضاف إليه معاني شعرية دقيقة بالتقديم والتأخير والحذف والتنكير والشرط، فجعل مدخل القصيدة الهناء واستخدم الفعل الماضي (هنا) لليقين بالوقوع، ثم قدّم (بك) للتعظيم، وجعل (عيش) نكرة للتعميم والتعظيم والتكثير، وحذف المضاف إليه فلم يقل مثلاً (عيش الناس) ليشمل غيرهم من الكائنات، ثم وسّع هذا التعميم والتعظيم بقوله (حيثما أنت نازل) فالهناء يرافقه في كل مكان، وفي الشطر الثاني قدّم كذلك الفعل (تحلو) ليدخل على المخاطب بما يطيب للأذن سماعه، وجعل الفعل مضارعا لأن الحديث عن سفر وحركة، وبما يجعل الحلاوة في تزايد، ثم جعل الشرط (وإن طالت) معترضاً دون الفاعل، لزيادة التفخيم، فكلما طال السفر زادت حلاوة مراحله، بخلاف المعهود من مشقة السفر وعذابه.

2.      حسن التخلص والوحدة العضوية: تجلّى حسن التخلص في الأبيات (29-30) . هذا الانتقال البارع والمنطقي من العشق الأرضي إلى الروحي، كما في البيت (30): "فَهَا أَنَا يَمَّمْتُ الْهُدَى فِي مَسِيرَتِي / لِنَحْوِ رَسُولِ اللَّهِ نِعْمَ التَّحَوُّلُ". يمثل هذا البيت ذروة الإنهاض الأخلاقي والروحي، لأنه يُحَرِّك النفوس إلى الأفعال، ويقود المتلقي إلى قرار داخلي للاتباع، وترك الدنيوي للأخروي.

3.      جمال القفلة الشعرية: بدأ تهيئة الختام (من البيت 64) بدعاء الله تعالى ثم طلب تبليغ التحية إلى النبي ﷺ، ثم ربط الشاعر "نهاية" المديح بـ "بداية" البسملة "فَلَا نَنْتَهِي حَتَّى نَفِيءَ نُبَسْمِلُ" (بيت 70) ليجعل المديح النبوي حلقة عمل لا تنتهي كتلاوة القرآن، ويا لها من قفلة مبتكرة.


خامساً: القصيدة بمعايير النقد العربي

تُثبت القصيدة امتثالها لكافة الشروط التي وضعها النقاد الأوائل للارتقاء بالعمل الشعري إلى مصاف الجودة، مع تحقيق الجزالة والابتعاد عن الغموض والتكلف الزائد:

الميزة النقدية (المعيار)

الدليل والاستشهاد من القصيدة

صدق المعنى وعمقه: أن يصدر الشعر عن تجربة حقيقية وفكرة شريفة وعميقة.

العمق: تأمل مثلاً فلسفة الرشد المُكتسَب من الألم: "فَلَا رُشْدَ إِلَّا بِالْجِرَاحِ وَغُصَّةٍ" (البيت 19)، وهو معنى نبيل.

الجزالة وقوة اللفظ: أن يكون اللفظ قوياً ومناسباً للمعنى.

تأمل قوة اللفظ في الفخر والحماسة: "نُقِيمُ كِرَاماً لَا عَلَى الضَّيْمِ وَالْأَذَى / وَنَحْنُ حِرَابٌ لِلْحُرُوبِ وَأَنْصُلُ" (البيت 24).

حسن النظم والترتيب (الوحدة): إحكام بناء الجملة والترابط بين الأجزاء.

وحدة عضوية متكاملة، حيث بُرّر النسيب للانتقال إلى المديح، وحققت القفلة الدورية الإحكام التام للغرض.

نبل المقصد وقوة الأثر: خدمة الحكمة والقيم الإنسانية.

القصيدة غايتها مدح النبي ﷺ والتذكير بقيمة السُنة النبوية، والدعوة إلى التمسك بالدين: "وَلَيْتَ بَنِي الْإِسْلَامِ عَضُّوا بِنَاجِذٍ / عَلَى السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ لَكِنْ تَزَيَّلُوا" (البيت 60).

العمق التاريخي والإشارة التراثية (الأنسنة):

تظهر القصيدة عمقاً وطنياً خاصاً في البيت (44): ("أُوَاصِلُ مَجْداً أَصَّلَتْهُ سَمَائِلُ"). يشير الشاعر بذكاء إلى بلدة "سَمائل" العُمانية، في استحضار لقصة مازن بن غضوبة السعدي، أول من أسلم من أهل عُمان، وتضمين شطر من قصيدته "إليك رسول الله خبّت مطيتي". هذا التضمين يرفع غرض المديح النبوي إلى استدعاء للتاريخ الإسلامي المشرق، ومبادرة أسلاف الشاعر لاعتناق الدين الحنيف من غير أن يطأ رسول الله ساحتهم بخف ولا حافر.


سادساً: القصيدة بمعيار ابن قتيبة (جودة اللفظ والمعنى معاً)

انطلاقاً من منهج ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء"، الذي حطّم العصبية بين القديم والحديث واعتمد على الجودة الفنية الصرفة معياراً للحكم، يمكن تصنيف القصيدة كالتالي:

1.      جودة اللفظ (الديباجة): يتمتع النص بمتانة سبك وجزالة لفظية، تتناسب مع عمود الشعر. الألفاظ فصيحة وقوية، بعيدة عن الغريب والمبتذل.

2.      جودة المعنى (شرف الفكرة): المعاني نبيلة وشريفة، كما في فلسفة الرشد المكتسب من الألم (البيت 19)، والغاية النبيلة في التأصيل للغزل الراقي والمديح الصادق والاتباع الراشد.

النتيجة والتصنيف: تندرج قصيدة "هَنا بكَ عيشٌ" ضمن الطبقة الأولى من الشعر عند ابن قتيبة، وهي الطبقة التي: "حَسُنَ لَفْظُهُ وجادَ مَعْناهُ"، وهي أعلى درجات الشعر وأفحله.


سابعاً: النظم الجرجاني والتخييل القرطاجني

إن "الجِدّة في توليد المعاني الشعرية" (الجرجاني) هي المدخل لتحقيق "شرف المعنى" وقوة الإنهاض عند القرطاجني. وتبرز القصيدة قوة نظمها وحسن تركيبها في تحويل المعنى عبر الوسائل الآتية:

1.      النظم التركيبي ومولدات "معنى المعنى" (الجرجاني):

نماذج موجزة للوسائل التركيبية التي وظفها الشاعر لتوليد دلالة جديدة:

البيت الشعري

الوسيلة النظمية البلاغية

توليد المعنى النظمي وتحقيق شرف المعنى

البيت (5): "وَكُلُّهُمُ أَرْخَى ذُؤَابَةَ شِعْرِهِ / لِذَاتِ خِمَارٍ، مَا جَرِيرٌ وَأَخْطَلُ؟!"

الحذف والاستفهام البلاغي: (حُذف كلام بعد (ما) ليتسع خيال السامع في إمكانياته المناسبة).

الحذف يخلق استفهاماً بلاغياً يوحي بقيمة شعر ذات الخمار، مما جعل العمالقة يتضاءلون أمامها.

البيت (18): "إِذَا الْجُرْحُ أَدْمَى الْقَلْبَ بَشَّرَ عَقْلَهُ / فَيَنْسِجُ آمَالَ الرَّشَادِ وَيَغْزِلُ"

التحول الدلالي والتصوير الحركي: توالي الأفعال (أدمى، بشّر، ينسج، يغزل).

الانتقال من الألم إلى الأمل، حيث يستمر العقل في النسج والغزل في دورة لا تتوقف (الجرجاني: "رب شيء خسيس توصل به إلى شريف") وكيف أخّر ذكر الغزْل مع سبقه في الترتيب العملي على النسج ليوحي باستمرار نسج الآمال.

البيت (51): "حَيَاتُكَ نِبْرَاسٌ، وَهَدْيُكَ سُنَّةٌ / وَنُطْقُكَ قُرْآنٌ، وَحُكْمُكَ فَيْصَلُ"

حسن التقسيم والنظم التصويري المتكامل: التوزيع المتساوي لصور المدح (4 صور متوازية).

يحقق كمال النظم وإحكام الوصف عبر التقسيم الجامع المانع الماتع، ويُحَرِّك النفس لقرار الاتباع.

2.      التخييل والإنهاض الروحي (حازم القرطاجني): الشعر كقوة محركة:

تظهر هذه المقارنة ذروة الإنهاض القرطاجني، حيث يتم نقل المتلقي من حال إلى حال عبر التخييل الذي يلامس الإرادة والفعل (يُحَرِّكُه إلى انبساطٍ أو انقباض، أو إرادةٍ أو كراهة):

البيت الشعري (المنهض)

وجه شرف المعنى وقوة التخييل والإِنهاض

نمط الإنهاض الذي حققه

البيت (17): "وآلامُ مَسرى الحُبِّ أشهى لعاشقٍ / من اليُسرِ واللذاتِ لوْ كان تَحْصُلُ"

التخييل الوجداني للألم: يحوّل الألم إلى قيمة (أشهى من اللذات)، مما يُحَرِّكُ النفس إلى إرادة الصبر والسمو.

إنهاض عاطفي/فكري (نقل الوجدان لإنتاج الرشد).

البيت (32): "فَفِي كُلِّ أَزْمَاتِي أَرَاهُ بِجَانِبِي / فَيَخْمُدُ بُرْكَانِي وَتَهْدَا الزَّلَازِلُ"

شرف التعبير بالتمثيل: تصوير الاضطراب النفسي الهائل بأعنف الظواهر الطبيعية، ثم فضل الإخماد بقرب المصطفى ﷺ. تخييل يُثَبِّتُ المقاصد في القلوب.

إنهاض روحي/نفسي (نقل من الحيرة إلى السكينة التامة).

البيت (61): "هُدى أحمدٍ سِربالُ كلِّ فضيلةٍ / فيا حُمقَ من يَعرى ولا يتسرْبلُ"

التخييل الأخلاقي القوي (التحذير): يصور الهدى سِربالاً لجميع الفضائل، ويستخدم "حُمق" لإثارة كراهة ترك هذا السربال (تحريك النفس إلى كراهة ترك الفعل الشريف).

إنهاض أخلاقي/سلوكي يقود المتلقي لاتباع السُّنة.

3.      توليد المعاني الشعرية وتطويرها:

1.      الإبداع في توليد "معنى المعنى" (صور مبتكرة):

البيت الشعري

الصورة المبتكرة/النظم البلاغي

توليد المعنى النظمي والإِنهاض

البيت (6): "وَمِنْ عَيْنِهَا أَشْفَى وَأَصْحُو وَأَثْمَلُ"

جمع الأضداد: صورة تجمع الشفاء والصحو (الوعي) والثمالة (السكر) في مصدر واحد (العين).

الجدة: أن العين تُحدث كل حالات العاشق المتناقضة.

البيت (18): "إِذَا الْجُرْحُ أَدْمَى الْقَلْبَ بَشَّرَ عَقْلَهُ / فَيَنْسِجُ آمَالَ الرَّشَادِ وَيَغْزِلُ"

تحويل دلالي وتصوير حركي: الجرح يبشّر العقل، والعقل يغزل الرشاد من خيوط الجراح.

إنهاض فكري: تحويل الألم إلى "بشارة"، مما يؤسس لفلسفة الرشد المُكتسَب من الألم.

2. **التطوير على نسق التراث (صور مطوّرة):**

الصورة التقليدية (الأصل)

التطوير الجمالي في القصيدة

الدليل والاستشهاد

العشق والألم

تحويل الألم إلى قيمة اقتصادية (صيغة معاصرة).

"ضَرِيبَةُ عِشْقِ الْمَرْءِ حُزْنٌ وَلَوْعَةٌ" (البيت 15).

الجماح والسيطرة

"الجماح" استعارة تقليدية، لكن إضافة "شق نحر الشوق" يعطيها قوة حركية جديدة.

"أَكُفُّ جِمَاحَ النَّفْسِ... وَلَوْ شُقَّ نَحْرُ الشَّوْقِ بِالدَّمْعِ جَدْوَلُ" (البيت 28).


ثامناً: تقاطعات القصيدة مع مدارس الإحياء والديوان والمهجر

إن هذه القصيدة لا تقتصر على تمثيل الفحولة الكلاسيكية فحسب، بل تمثل تقاطعاً ناجحاً يلائم تطلعات كبرى مدارس التجديد العربية:

1.      مدرسة الإحياء: تتجسد روح الإحياء في هذه القصيدة بجزالة الأسلوب، والالتزام بمعايير الشعر العربي الأصيل، ومتانة السبك.

2.      مدرسة الديوان: تلتقي القصيدة مع دعوات الديوان في الصدق الوجداني والوحدة العضوية والاهتمام بالمضمون الفكري، خاصة في طرحها لفلسفة متكاملة عن الألم جسراً للرشد الروحي.

3.      مدرسة المهجر: يتوافق التحول الروحي والاتجاه نحو المطلق في القصيدة مع النزعة الروحية والعشق الوجودي والنزعة الصوفية لمدرسة المهجر.


تاسعاً: النقد العالمي (التحول الدرامي والسمو الروحي)

تتقاطع القصيدة مع مدارس نقدية عالمية كبرى:

1.      المقاربة الغربية: تُظهر القصيدة بناءً درامياً يماثل هيكل القصيدة السونيتية الكلاسيكية، وتحديداً ما يعرف بـ "نقطة التحول" (Volta)، حيث ينتقل النص من (الشكوى العاطفية) إلى (قرار الهداية الروحية).

2.      المقاربة اليابانية (اليُوگِن) مفهوم "اليُوگِن" يعني "الجمال الغامض العميق". إن وصف الشاعر للنبي ﷺ بأنه "وَفَضْلُكَ بَحْرٌ لَا يُرَى مِنْهُ سَاحِلُ"، يجسد هذا الشعور بالجمال الذي يتجاوز الإدراك الحسي.


عاشراً: البنية الموسيقية وشجاعة توظيف سناد التأسيس

جاءت القصيدة على بحر الطويل، وهو أطول البحور، يمتاز بـالرزانة وطول النفَس، مما يجعله مثاليًا لأغراض المديح والرثاء والحِكم التي تتطلب جزالة وتدفقًا سلسًا، كما أن ارتباطه بشعر الفحول على مدار التاريخ يمنحه هيبة ووقارًا إيقاعيًا.

تضمنت القصيدة ما يُعرف عروضياً بـ "سناد التأسيس" (التناوب بين القوافي المؤسسة وغير المؤسسة). لقد أظهر الشاعر شجاعة أدبية وفنية في توظيف هذا السناد، محتكماً إلى قاعدة الذوق والجمال الموسيقي، لا إلى صرامة التنظير:

1.      طبيعة الاغتفار (حكم الخليل وتفسير الأخفش):

o        حكم الخليل الدقيق: يعد الخليل بن أحمد سناد التأسيس من الأمور السهلة المغتفرة، بخلاف "سناد الردف" أو "الإقواء" اللذين يعتبرهما عيوباً قبيحة.

o        تفسير الأخفش (تلميذ الخليل وناقل علمه): وقد نص الأخفش إلى أن العرب قد جمعت المؤسس وغير المؤسس في القصيدة الواحدة، وعلل ذلك بأن "الألف حرف خفي، والمد فيه يسير، فإذا وقع الدخيل (الحرف المتحرك) بينه وبين الروي، شُغل السمع بالحركة عن إدراك غياب المد بوضوح".

2.      التبرير الفني:

o        هذا التوظيف يمنح الشاعر مساحةً أوسع للتعبير عن المعاني الدقيقة دون أن يكون حبيس القوافي، مقدِّماً نقاء المعنى على الشكل عندما لا يتأثر الوزن والنغم.


خاتمة والحكم النقدي

ختاماً، تُعد قصيدة "هَنا بكَ عيشٌ" وثيقة شعرية تامة الإحكام، تحقق أعلى شروط النظم الرفيع الذي يفوق مجرد البديع الظاهر. لقد أثبتت هذه القراءة أن النص يرقى لأعلى طبقات الفحولة الشعرية في جودة اللفظ والمعنى، ونجح الشاعر في جعل السامع يعيش الحالة الوجدانية مستخدماً النظم لتوليد المعاني الشعرية والدلالات وتحريك الفكر إلى ما هو أوسع من المنطوق، والارتقاء بالتجربة إلى سمو القرب من الله ورسوله، وحلول البركات، وجلب الراحة النفسية.

إنها نموذج بلاغي مشرف يجمع حتى بين الأضداد (حب بشري/حب إلهي، ألم/نشوة، حرب/سلام) ليصل بالمتلقي إلى حالة من الكمال والتوازن، وبما يوجه لا شعورياً إلى التغيير الإرادي بالإيمان والعمل الصالح. نموذج يجد فيه الناقد العربي مرجعاً لتطبيق أدق نظريات النظم.


🔗 الآن حاول تذوق القصيدة، فستجد عند التأمل فيها أضعاف ما ذكرناه في هذه الدراسة:

-للاستماع إلى القصيدة منشدة:

بصوت الشيخين طالب ويحيى القنوبي (رابط ساوندكلاود): https://soundcloud.com/user868623181/czuflbsr8yhx

 

نص القصيدة:

https://shooninsania.blogspot.com/2017/05/blog-post_87.html


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قصة فيها عبرة للشعراء والنقاد

قضية بلاغية   من «دلائل الإعجاز»، تنير الدرب للشعراء والنقاد، يعرض فيها عبد القاهر الجرجاني واحدة من أعمق القضايا اللغوية والبيانية، وهي إشك...