بسم الله الرحمن الرحيم
رثاء الأستاذ الشيخ أبي الأزهر أحمد بن سليمان بن
علي الكندي رحمه الله..
سقوطُ الجبالِ يُريعُ العُقولا
ويُمسي به الطفلُ شيخاً كليلا
وما هِزَّة الطَودِ حين السقوط
بأعظمِ وقعاً وأدهى شمولا
من الزَّلزلاتِ العظامِ التي
تلي سقطةَ الموتِ تُردي الفُحولا
سقوطُ الهُداةِ، جبالُ النجاةِ،
يَشَلُّ الحياةَ، ويُعمي السبيلا
فلا غروَ أن نَشَجَتْ بعدَهم
سماواتُ ربي طويلاً طويلا
يُشاطِرها الكونُ في نشجِها
إذا استرجعتْ عاودَتْهُ ثقيلا
ولم أرَ كاليومِ في وقعه
فكانَ المصابُ عذاباً وبيلا
رأيتُ الرجالَ كمثلِ اليتامى
نشيجاً ؛ بكاءً ؛ نحيباً ؛ عويلا
لك الله يا سيدي في عُلاكَ
كأنْ قد تخيَّرتَ موتاً جليلا
حياتُك كانت قياماً على
حياضِ الجهاد تُعَلِّمُ جيلا
كأنَّكَ مِن حَجَرٍ شُكلتْ
قناتُك أو هيَ أقوى قليلا
تَعِبنا ونحن ذوو عَزمةٍ
وأنتَ كأنتَ قؤولاً فَعولا
حَملتَ على كاهِلَيكَ الثِّقالَ
وأسسَّتَ فِكراً وأنشأتَ جيلا
فمثلك يأبى المماتَ اختلاساً
كما قد أبيتَ الحياةَ ذليلا
تَنَاقلُ صورَتَكَ المُرْسِلاتُ
وتُشهِدُ موتَك مَلْكاً أصيلا
لقيتَ الإلهَ عُقيبَ الصيامِ
نقياً زكياً حميداً جليلا
أبا الأزهرِ النورُ يعلو ثراكَ
فطبتَ مساءً وطبتَ مَقيلا
بمثلكَ لا لن أقول تَعزَّى
لأني أراهُ ينافي الأُصولا
فأنتَ مصابُ البلادِ الذي
بَكَتْهُ الخلائقُ عَرضاً وطولا
ولو عَلموا كنتُ قلتُ: الدُّنى
فذلك والله أقوَمُ قيلا
ألستَ سليلَ المعالي الذي
إذا ما ادلَهَمَّتْ تكونُ الدليلا؟
وأنتَ الجَمالُ بخُلْقٍ، وخَلْقٍ،
وعِلمٍ، ودينٍ، وسُدْتَ العقولا
وأنت الذي قد كَسرتَ السِّهامَ
سهامَ العدوِّ فماتَ خجولا
وأنت الذي يتعبُ الوارثون
بدورِك فهو يريد القَبيلا
فأنتَ بأُمَّتنا أمةٌ
فهل تحسبنَّا سنلقى البديلا؟!
وأنتَ وأنت وأنت الذي
مدائحُنا فيك كانت قليلا
فصبراً عُمان على فَقدِهِ
وصبراً بني الدِّينِ صبراً جميلا
--------
ولم يبق لنا في الختام إلا تكرار أبياتك القائلة:
تركتَ فراغاً لا يُسَدُّ بربعنا
وأجريتَ في الآماق من حسرةٍ دما
ولكنْ يُسلِّينا بأنَّكَ قادمٌ
إلى الله حيث البر والفضل والرحمى
كذاك يسلِّينا بأنَّك تَاركٌ
لنا خلَفاً نرجو بأن يتبعوا الرسما
بقي أنَّ في تلك المنيَّة عِبرةً
لِمَنْ نَسيَ الأُخرى وقد حَمل الإثما
فيالكِ مِنْ دنيا بك المرءُ سادرٌ
ولمَّا يفِق أو يحتسي ذلك السُّمَّا
وبعد: على خيرِ البريةِ كلِّها
صلاةً وتسليماً نفضُّ به الخَتما
وطبت أستاذي حياً وميِّتاً، والسلام عليك في ديار الخالدين
3 شوال 1420ه
عبدالله بن حمدان بن حمود الإسماعيلي
من أشكل عليه (وأنت كأنت) فليتأمل قول القاضي الجرجاني:
ما زال في الناس أشباهٌ وأمثلةٌ
حتى ظهرتَ فغاب الشكل والمثَلُ
-------
نقد قصيدة: "سقوطُ الجبالِ يُريعُ
العُقولا" (الرثائية)
هذه القصيدة هي نموذج
أصيل للرثاء الفاخر الذي يجمع بين الحزن الشخصي والتقدير الوطني/الديني للفقيد. لقد حققت القصيدة وحدة
عضوية متينة جداً عبر الرابط الاستعاري المتكامل (Master Metaphor)، وهو مفهوم "سقوط
الجبال".
أ. النظم الكلي: الوحدة الاستعارية المتصاعدة
تدور القصيدة حول
استعارة محورية واحدة هي: الشيخ الراحل = الجبل/الطود.
وهذا النظم ليس مجرد تشبيه، بل هو بناء تصاعدي يربط الحزن بانهيار الأركان:
1.
المقدمة (تأسيس الاستعارة): تبدأ القصيدة بتأكيد
عِظم الفقد، حيث تجعل موت الشيخ مرادفاً لـ "سقوط الجبال"
(الأبيات ١-٤). هذا هو الرابط الذي يفرض الوحدة على كل ما يلي.
o
"سقوطُ الجبالِ يُريعُ العُقولا" (البيت ١)
o
"سقوطُ الهُداةِ، جبالُ النجاةِ" (البيت ٤)
2.
الانتشار الكوني (مُضاعفة الأثر): تنتقل القصيدة لتجعل
الحزن كونياً، حيث تشاطر السماوات والكون نشيج الرجال، وهذا
يرفع مكانة المرثي من كونه شخصاً إلى كونه ركناً وجودياً
(الأبيات ٥-٨).
o
"يُشاطِرها الكونُ في نشجِها" (البيت ٦).
3.
العظمة والمضاء (إثبات طبيعة الجبل): هذا القسم هو إثبات
للصلابة الجبلية للشيخ في حياته، فهو لم يتغير ولم يذل، بل كان صلباً كالحجر، ثم
جليلاً في موته (الأبيات ٩-١٦).
o
"كأنَّكَ مِن حَجَرٍ شُكلتْ قناتُك" (البيت ١٣).
o
"أنتَ كأنتَ قؤولاً فَعولا" (البيت ١٤).
4.
النتائج والأثر (الفقد الذي لا يُعوض): هذا القسم يربط الفقد
بالبعد القومي والديني، مؤكداً أن الرثاء يخرج عن حدود الأصول التقليدية (لا
تعزى)، وأن المرثي كان "أمة" بحد ذاته (الأبيات
١٧-٢٧).
o
"فأنتَ بأُمَّتنا أمةٌ / فهل تحسبنَّا
سنلقى البديلا؟!" (البيت ٢٦).
ب. النظم الجزئي (القوة التعبيرية):
القصيدة مليئة بالنظم
المحكم الذي يخدم فكرة العظمة والصلابة:
·
"وأنتَ الذي قد كَسرتَ السِّهامَ / سهامَ
العدوِّ فماتَ خجولا" (البيت ٢٤): نظم قوي، يجعل فعل كسر السهام ناتجاً عن
كسر إرادة العدو.
·
"وأنت الذي يتعبُ الوارثون / بدورِك فهو
يريد القَبيلا" (البيت ٢٥): نظم مبتكر، يقلب فكرة الوراثة إلى تعب؛ لأن الدور ضخم جداً لدرجة أنه يحتاج إلى "قبيلة" لا إلى وريث واحد.
·
"فأنتَ بأُمَّتنا أمةٌ" (البيت ٢٦): نظم إيجازي،
يلخص فكرة القيادة الفردية في كلمة واحدة.
الخلاصة: هذه مرثاة مُحكمة
النظم، وبها وحدة عضوية قوية تقوم على استعارة الجبل، وتتدرج في تصوير
الأثر الكوني ثم التاريخي، مُبتعداً عن مجرد تعداد المناقب إلى تصوير الفراغ الذي خلفه الفقد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق