الخميس، 31 أكتوبر 2019

كلام في الثورات والطغاة


أول ثورة تتطور أمام النقل التلفزيوني المباشر هي ثورة ٢٢ ديسمبر ١٩٨٩ ضد الطاغية نيكولاي تشاوشيسكو. مناسبتها: أراد الطاغية إظهار جبروته فأمر أن تقاد الجموع إليه في مظاهرة مؤيدة، فرتب ذلك جهازه الأمني أمام القصر في بوخاريست، وجمع فيها ٨٠ الفاً فبدأ خطابه التاريخي وبدأ الجمهور يصفق.
بعد دقيقة ونصف هتف ضده فردٌ غير معروف حتى اليوم وخلال نصف دقيقة تحولت الجموع إلى صوت واحد عفوي يهتف ضد الزعيم ومن ضمن الهتاف اسم بلدة تيميشوارا . [وهي بلدة خطب فيها قس عن الحرية فأرادت السلطة اعتقاله ففداه الشباب بأرواحهم.] فغر الزعيم فاه مندهشا من هول ما يتبلور أمام عينيه ولم يستطع النطق برهة.
جاء أحد الحرس يطلب منه الدخول. وانقطع الإرسال التلفزيوني مع بقاء الصوت ثم عاد. أخذ المفجوع يقرع الميكروفون بشكل هستيري وتدخلت زوجته إلينا لتصرخ في الجموع الهادرة أن اصمتوا فقال لها اخرسي. في الدقيقة الخامسة قال: هذه ثورة. في الدقيقة السابعة قال لهم من الشهر القادم سأرفع رواتبكم.
بعد أن اقتنع بدخول الجموع داخل القصر تسلل وزوجته عبر معابر سرية ونقلتهم هليكوبتر إلى قصر آخر. خلال هروب تالٍ تمكن الفلاحون من إلقاء القبض عليه ثم أعدم وزوجته بعد محاكمة سريعة. حكم ٢٤ سنة بدأها مصلحا وأنهاها طاغية يخاف شعبه وشعبه يخافه بسبب القمع والإفقار.

كان تشاوشيسكو يسمي معدات تجسسه صناديق استطلاع الرأي استخفافا بالنظام الديمقراطي، وقد أطلق لجهازه الأمني (سكيوريتاتا) العنان للتجسس على الشعب وتصفية كل معارض. جن جنون السكيوريتاتا بعد سقوط الطاغية رغم انحياز الجيش للشعب فأشعلت ثورة مضادة، وكانت تعرف أسرار الجيش والجيش يجهل أسرارها.
تشكّل حزب أسمى نفسه (جبهة الإنقاذ الوطني) وادعى بأنه هو قيادة الثورة وصدقته الجموع، وما هو سوى قيادات من جهاز الأمن وبقية الحزب الشيوعي فاستطاع الاستمرار بحكم البلاد. أخرجوا عمال المناجم ليتظاهروا تأييداً للحكم الديمقراطي الوهمي الجديد. عقدت محاكمات صورية ولم يحاكم سوى أكباش فداء.
سُلّمت وزارة الدفاع بعد الثورة لمنسق تشاوشيسكو مع السكيوريتاتا. كانت كل الأشياء ملكا للدولة فتم خصخصتها فبيعت بثمن بخس شركات الحكومة التي تسيّر البنية الأساسية والموارد الطبيعية بالبلاد لرجالات الدولة العميقة. أنزل تمثال لينين لكنه لم يحطم. كان نصيب الباقي حياً من الثوار الفقر والضرائب.

هل هذا - مع أمثلة عديدة أخرى - يعني أن مصير ثورات الشعوب الفشل؟

كلا، فالمتوقع جداً من المنتفعين من وجود الطاغية الدفاع بشراسة في سبيل البقاء، وتفعيل ما يسمى بالدولة العميقة، لكن متى ما وجدت الإرادة من الشعب للتحرر والوصول إلى النجاح فذلك ممكن ولكنه يأخذ وقتاً وجهداً ودماء وأخطاء.


اليوم هناك العديد من الأنظمة الديمقراطية الرائدة وهي نتاج ثورات ناجحة. ومن أبرز الأمثلة الثورة الهولندية ضد الإمبراطورية الإسبانية في القرن السادس عشر والتي وضعت الأسس لهولندا. والثورة الإنجليزية في الفترة من 1642 إلى 1649 التي كسرت سلطة الملكية والأرستقراطية الإقطاعية وفتحت الباب أمام الحكم البرلماني. والثورة الأمريكية عام 1775 التي مهدت الطريق لتنمية الولايات المتحدة كدولة رائدة في العالم، وثورة فرنسا 1789-1794 التي أزاحت رأس لويس السادس عشر، وكسرت قوة الأرستقراطية الفرنسية وأنهت الإقطاع في فرنسا. ونأمل بإذن الله أن تكون الثورة التونسية ضمن الثورات التصحيحية الناجحة.


الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

صناع الخلود



صناع الخلود

ألا ترى غرابةً
أنّ ملوك الشعب والمهرجين
أولئك الجذلى بسركٍ ولعبْ
وعامة الدهماء من أمثالنا
نعمل في صناعة الخلود!

أُعطيَ كل واحد حقيبتَه
 بها عتادُ شغله،
وساعةٌ رملية ،
ومرجعُ الإرشاد ؛
ليبتني الواحدُ منا عندما تطير ساعته ،
مطبَّ عثرة أو صخرةَ العبور.

وخطوةٌ وراء خطوة وتنقضي أباعدُ الدروب ،
وغرزةٌ وراء غرزة وينمحي مهلهلُ الثقوب،
فلا يثبطْك الذي عليك فعله
لتعتقد
أنك لن تكمل هذا الواجب المهول

فكل ما عليك فعله المحاولة
في كل يوم تكسب النقاط
واحدةً فواحدة
وعن قريب سترى السهل مكان الجبلِ  .

شعر روبرت لي شارب (شاعر أمريكي ت 1951 )
ترجمة عبدالله بن حمدان


Makers of Eternity

Isn’t it strange, that princes and kings
     and clowns that frolic in circus rings,
And ordinary folk like you and me
     are makers of eternity.

For each is given a bag of tools,
     an hourglass, and a book of rules;
And each shall have built when his hour has flown,
     a stumbling block or a stepping stone.

One step upon another and the longest walk is ended,
     one stitch upon another and the longest rend is mended,
So never be discouraged by the things you have to do,
     and think that such a mighty task you never shall get through;

Just endeavor day by day,
     another point to gain,
And soon the mountain that you feared
     will have become a plain.

by R. L. Sharpe

الخميس، 3 أكتوبر 2019

أنين الأين


أين ابتسامتُك العذراءُ والطربُ
وطرفةٌ يرتوي من عذبِها الأدبُ

أين المزاجُ الذي مازجتُ فيه دمي
ذاك الذي إنْ بدا لم يَبقَ مكتئبُ

أين الحنينُ الذي ما سكّنتْه رُقى
وصلٍ، وتُشعله الأفراحُ والكُرَبُ

أين الحِوارُ على أرقى مناهجه 
به تفاصيلُ ما نهوى وما يَجب

أين العلومُ التي من شرحِنا غَزُرتْ
تُغني فَتاك عن المفتين ما كتبوا

أين الصِلاتُ التي تربو على نَسبٍ
إن كان من سببٍ أو لم يكن سببُ

أين القصائدُ تأتينا معطرةً
تكاد أبياتُها من نشوةٍ تَثِبُ
  
أين التي إن نأت تبغي لها هرباً
ما غيرُ أفيائنا يُفضي بها الهربُ

أين التي لا يضاهي قدرَها امرأةٌ
إلا إذا ما استوى اللاوسي والخشبُ

أين التي رضيَتْ قولي لها غزلاً:
جهلي الصوابُ وأما صدقُهم كذِبُ

أين التي خَطبتْ بالهمسِ في أذني
"أنتَ البلادُ" فخرَّتْ تَسجدُ الخُطَبُ

أين التي رَصّعتْ بالدرّ قافيتي
والشعرُ مذ طَفِئتْ يبكي وينتحبُ

أينيّتي هذه إن لم تَصل أذناً
تشتاقها فعسى تُصغي لها الحِقَبُ

بعضُ البناءِ الذي نفنى لنعمره
بيتٌ من الشعرِ تَستشفي به العربُ

ع ح
*اللاوسي: عود فاخر نادر.


الاثنين، 16 سبتمبر 2019

قولوا لمن في الهوى أزرى به الدلعُ


قولوا لمن في الهوى أزرى به الدلعُ
وغَرّه أننا نَرعى ونستمعُ

لم يعرف الحبَّ من يَرضى علاقتَه
في حكمِها يَستوي المحبوبُ والسِلَعُ:

إنْ أنت أقبلت فالأحضانُ مشرعةٌ
أو شئت ترحل فالأبوابُ تتسعُ

إنّ المحبَّ يرى في البَين داهيةً
تهونُ مِن بَعدِها الأهوالُ والفزعُ

يرضى لمهجتِهِ، في دربِ بهجتِهِ
لو ساعةً من لِقا، تُجرى وتُنتزع

يَرى خطيئةَ من يَهوى فيتبعه
عُتباك حتى الرضا الغاياتُ والمتعُ

أقبِلْ كما أنت لا ضاقت عليك دُنا
نفسي فداك، وفي عينيَّ مُتَّسَعُ
ع ح
* المهجة دم القلب ولا بقاء للنفس بعدما تراق.

الأحد، 11 أغسطس 2019

قصيدة البلبل الغريب لبدوي الجبل



البلبل الغريب -  بدوي الجبل

بدوي الجبل هو محمد سليمان الأحمد 1905 – 1981م
انتخب نائباً في المجلس النيابي ثم ضيق عليه الاستعمار الفرنسي فلجأ إلى العراق، ولما عاد اعتقِل ثمانية أشهر ثم عين وزيراً للصحة ثم الإعلام. هاجر بعدها مجددا متنقلاً بين لبنان وتركيا وتونس قبل أن يستقر في سويسرا. عاد الى سوريا عام 1962 وتوفي بها عام 1981

هذه القصيدة من أواخر شعر بدوي الجبل، ومن أجود ما قيل من شعر في العصور الحديثة. آية في الأصالة والجزالة والحسن، تمثّل ذلك فيما حوته من فلسفة الحزن، وأدب الطفولة، ووصف الطبيعة، وحنين المهاجر المشوق إلى بلاده، والرضا بالقضاء، والفخر، وإخالها لو دخلت منافسة شعر بين العصور المختلفة لنالت مركزاً مرموقا.

سَلي الجَمرَ هل غالى وجُن وعَذّبا
كَفرتُ به حتى يَشُوقَ ويَعْذُبَا
ولا تَحرميني جَذوةً بعد جَذوةٍ[1]
فما اخضَّلَّ هذا القلبُ حتى تَلَّهبا
وما نالَ معنى القلبِ إلا لأنهُ
تَمرَّغَ في سَكبِ اللظى وتَقلَّبا
هبينيَ حُزنا لم يَمُرَّ بمهجةٍ
فما كنتُ أرضى منك حُزْنا مُجَرَّبا
وصُوغيهِ لي وحدي فريداً، وأَشفِقي
على سِرِّهِ المكنونِ أن يَتسرّبا
مَصوغاً كأعلى الدُّرِّ عَزَّ يَتيمُهُ
فأُودِعَ في أَخفى الكنوزِ وغُيِّبا
وصُوغيهِ مَشبوبَ اللظى، وتَخيّري
لآلامهِ ما كان أَقسى وأَغربا
وصُوغيهِ كالفَّنانِ يُبدِعُ تُحفَةً
ويَرمُقُها نَشوانَ، هَيمانَ، مُعجَبا
فما الحزنُ إلا كالجَمالِ؛ أَحَبُّهُ
وأَترَفُهُ ما كان أَنأى وأَصعَبا
٭٭٭
خيالُكِ يا سمراءُ مَرَّ بِغُربتي
فحيّا، ورَحّبنا بِغالٍ، ورَحّبا
جَلاكِ لعينِي مُقلتينِ وناهداً
وثَغراً كمَطلولِ الرياحينِ أَشنَبا[2]
فصانَكِ حُبي في الخيالِ كرامةً
وهَمَّ بما يَهواهُ لكنْ تَهيَّبا
وبعضُ الهوى كالنُّورِ إنْ فاضَ يأتلقْ
وبعضُ الهوى كالغيثِ إنْ فاض خَرَّبا
أرى طيفَكِ المعسولَ في كلِّ ما أرى
وَحِدتُ ولكنْ لم أَجدْ منه مَهرَبا
سَقاني الهوى كأسينِ: يَأساً ونِعمةً
فيا لكَ مِن طيفٍ أَراحَ وأَتعَبا
وخالطَ أَجفاني على السُّهدِ[3] والكَرى
فكان إلى عَينِي من الجَفنِ أقرَبا
شَكَونا له السمراءَ حتى رَثى لنا
وجَرأَنا حتى عَتبنا فأَعتَبا
وناوَلني من أَرزِ لبنان نَفحةَ
فعَطَّرَ أَحزاني ونَدَّى وخَضَّبا
وثَنَّى بِرِيّا الغُوطتينِ[4] يُذيعُها
فَهَدْهَدَ أحلامي وأغلى وطيَّبا
وهل دَللتْ لي الغُوطتان لُبانةً[5] 

أحبَّ من النُّعمى وأغلى وأَعذَبا؟
وسِيماً من الأطفالِ لولاهُ لم أَخَفْ
على الشَّيبِ أنْ أنأى وأنْ أَتَغَربا
تَوَدُّ النجومُ الزُّهرُ لو أنها دُمَى
ليَختار منها المُترفاتِ، ويَلعَبا
وعندي كنوزٌ من حنانٍ ورحمةٍ
نَعيميَ أنْ يُغرى بهنَّ ويَنهَبا
يَجورُ وبعضُ الجَورِ حُلوٌ مُحبَّبٌ
ولم أَرَ قبل الطفلِ ظُلما مُحبَبا
ويَغضبُ أحياناً ويَرضى وحسبُنا
مِن الصفوِ أنْ يَرضى علينا ويَغضبا
وإن نالَهُ سُقمٌ تمنيتُ أَنني
فداءً له كنتُ السقيمَ المُعذَّبا
ويُوجِزُ فيما يَشتهي، وكأنّهُ
بإيجازهِ دَلاً أعادَ وأَسهَبا
يَزِفُّ لنا الأعياد: عِيداً إذا مَشى،
وعيداً إذا ناغى، وعيداً اذا حبا
كزُغْبِ القطا لو أنّهُ راحَ صادياً
سَكبتُ له عيني وقلبي ليَشربا
وأُوثر أن يَروى ويَشبع ناعماً
وأَظمأُ في النُّعمى عليهِ وأَسغبا
وأَلثِمُ في داجٍ من الخَطْب ثَغرَهُ
فأقطِفُ منه كوكبا ثم كوكبا
يَنامُ على أشواقِ قلبي بمهدِهِ
حريراً من الوَشي اليمانيِّ مُذهَبا
وأَسدِل[6] أجفاني غطاءً يُظِلُّه
ويا ليتها كانت أَحَنَّ وأحدَبا
وحَمَّلَني أنْ أَقبل الضيمَ راضياً
وأرغبَ تَحناناً عليه وأَرهَبا
فأَعطيتُ أَهواءَ الخُطوبِ أَعِنَّتي
كما اقتدتَ فحلاً مُعرِقَ الزَّهوِ مُصعَبا
تأَبَّى طويلاً أنْ يُقاد وراضَهُ
زمانٌ، فراخى من جِماحٍ وأَصحبا
تَدَلَّهْتُ بالإيثارِ كَهلاً ويافِعاً[7]
فدَلَّلْتُهُ جَدّاً، وأرضيته أبَا
وَتَخْفِقُ[8] في قلبي قلوبٌ عديدةٌ
لقد كان شِعباً واحداً، فتَشَعَّبا
٭٭٭
ويا ربِّ من أجلِ الطفولةِ وحدَها
أَفِضْ بركاتِ السلمِ شرقاً ومغربا
ورُدَّ الأذى عن كلِّ شَعبٍ وإنْ يَكنْ
كَفوراً، وأَحبِبه وإنْ كان مُذنِبا
وصُنْ ضِحكةَ الأطفالِ يا ربِّ إنها
إذا غَرَّدتْ في مُوحِشِ الرملِ أعشَبا
ملائكُ لا الجناتُ أنجبنَ مثلَهمْ
ولا خُلْدُها - أستغفرُ اللهَ - أَنْجَبا
ويا ربِّ حبِّب كلَّ طفلٍ فلا يَرى
وإن لَجَّ في الإعناتِ وَجهاً مُقَطِّبا
وهَيئ له في كلِّ قلبٍ صَبابةً
وفي كلِّ لُقيا مرحباً ثم مرحبا
ويا ربِّ إنَّ القلبَ مُلْكُكَ إنْ تَشأ
رَددتَ مَحيلَ القلبِ ريّانَ مُخصِبا
٭٭٭
ويا ربِّ في ضِيقِ الزمانِ وعُسرِهِ
أرى الصبرَ آفاقاً أعزَّ وأرحَبا
صَليبٌ[9] على غَمْرِ[10] الخطوبِ وهَولها
ولولا زغاليلُ القَطا[11] كنتُ أَصلَبا
ولي صاحبٌ أَعفَيتُهُ[12] من مَودتي
وما كان مجنونَ الغُرورِ ليُصَحبا
غريبانِ لكني وفيٌّ وما وَفى
ونازعَ حبلَ الوُدِّ حتى تَقَضَّبا
ويا رَبِّ هذي مُهجتي وجراحُها
سيبقَين - إلا عنك - سِراً مُحَجَّبا
وجدتُ بأهلي ألفَ نابٍ ومِخلَبٍ
وللدهرِ والأعداءِ ناباً ومِخلَبا
ويا ربِّ إنْ هانتْ دموعٌ، فأدمُعي
حرائرُ شاءتْ أنْ تُصانَ وتُحجَبا
فما عَرَفتْ إلا قبورَ أحبَّتي
وإلا لِداتي[13] في دُجى الموت غُيِّبا
وما لُـمْتَ في سَكْبِ الدموعِ، فلم تَكن
خَلقتَ دُموعَ العَينِ إلا لتُسكبا
ولكنَّ لي في صَونِ دَمعيَ مَذهباً
فمنْ شاء عاناهُ ومن شاء نَكَّبا
ويا ربِّ أحزاني وضاءٌ كأنني
سكبتُ عليهنَّ الأصيلَ المُذَّهَبا
تَرَصَّدَ نجمُ الصبحِ[14] مِنهنَّ نَظرةً
وأشرفَ من عَليائهِ وتَرَقَّبا
فأرخيتُ آلافَ الستورِ كأنني
أمُدُّ على حالٍ من النورِ غيهبا[15]
فّغَوَّرَ[16] نجمُ الصبحِ يأساً فما أَرى
على طُهرِهِ حتى بَناناً مُخَضَّبا[17]
وقد تُبْهِرُ الأحزانُ وهي سوافرٌ
ولكنَّ أحلاهُنَّ حُزْنٌ تَنَقَّبا
ويا رُبَّ دربٍ للحياةِ سلكُتُهُ
وما حِدتُ عنهُ لو عرفتُ المُغيَّبا
ولي وطنٌ أكبرتُهُ عن مَلامةٍ
وأُغليهِ أنْ يُدعى على الذنبِ مُذْنِبا
وأُغليهِ حتى قد فتَحتُ جوانحي
أدلِّلُ فيهنَّ الرجاءَ المُخيَّبا
تَنَكَّر لي عند المَشيبِ ولا قِلى
فمِن بعضِ نُعماهُ الكهولةُ والصِّبا
ومِن حقِّهِ أن أحملَ الجرحَ راضيا
ومن حقه أن لا ألومَ وأَعتِبا[18]
وما ضِقتُ ذَرعاً بالمشيبِ فإنني
رأيتُ الضحى كالسيفِ عُريانَ[19] أشيَبا
يُمزِّقُ قلبي البُعدُ عمَّن أُحبُّهمْ
ولكنْ رأيتُ الذُّلَّ[20] أخشَنَ مَركِبا
وأستعطفُ التاريخَ ضناً[21] بأمتي
ليَمحوَ ما أُجزى به لا ليَكتُبا
٭٭٭
ويا ربِّ عِزٌ من أُميَّةَ لا انطوى
ويا ربِّ نورٌ وَهَّجَ الشرقَ لا خَبا
واعشقُ برقَ الشامِ إن كان مَمطِرا
حنوناً بسقياهُ، وإن كان خُلَّبا
وأهوى الأديمَ السمْحَ، رَيَّانَ مُخصِبا
سنابلُهُ نَشوى، وأهواهُ مُجدِبا
مآربُ لي في الرَّبوتَينِ ودُمَّرٌ
فمَن شَمَّ عِطراً شَمَّ لي فيه مأرِبا
سقى اللهُ عند اللاذقيةِ شاطئاً
مَراحاً لأحلامي ومَغنىً ومَلعَبا
وأَرضَى ذُرى الطَّودِ[22] الأشَمِّ فطالما
تَحَدَّى وَسَامى كُلَّ نجمٍ وأَتعَبا
وجادَ ثَرى الشهباءِ عِطرا كأنهُ
على القبرِ[23] من قلبي أُريق وذُوِّبا
وحَيَّا فلم يُخطئ حَماةَ غَمامُهُ
وزَفَّ لِحِمصَ العيشَ ريّانَ طَيِّبا
ونَضَّرَ في حَورانَ سَهلا وشاهِقاً
وباكَرَ بالنُّعمى غَنِيا ومُترِبا
وجَلجلَ في أرض الجزيرةِ صَيِّبٌ
يُسابِقُ في النُّعمى وفي الحسنِ صَيِّبا
سحائبُ من شرقٍ وغربٍ يَلُمُّها
من الريحِ راعٍ أهوجَ العُنفِ مُغضَبا
له البرقُ سوطٌ لا تَنِدُّ غَمامةٌ
لِتَشرُدَ إلا حَزَّ فيها وأَلهَبا
يُؤلِّفُها حيناً.. وتَطفِرُ جُفَّلا
وحاولَ لم يَقنُطْ[24] إلى أن تَغَلَّبا
أَنَخْنَ على طولِ السماءِ وعَرضِها
يُزاحِمُ منها المنكبُ الضخمُ مَنكِبا
فلم أَدرِ هل أَمَّ السماءَ قطيعُهُ
من الغيمِ أو أمَّ الخباءَ المُطَنَّبا
تَبَرَجَ للصحراءِ قبل انسكابِهِ
فلو كان للصحراءِ ريقٌ تَحَلَّبا
وتَعذُرُ[25] طلَّ الفجرِ، لم يروِ صادياً
ولكنَّهُ بَلَّ الرمالَ ورَطَّبا
ويُسْكِرُها أن تَشهدَ الغَيم مُقبِلا
وأنْ تَتملاهُ، وأن تَترقَبا
كأنَّ طِباعَ الغِيدِ فيهِ، فإنْ دَنا
قليلاً نأى حتى لقد عَزَّ مَطلَبا
ويُطمِعُها حتى إذا جُنَّ شَوقُها
إليهِ انثنى عن دربِها، وتَجنَّبا
تَعُدُّ ليالي هجرَهُ، وسجيةٌ
بكلِّ مشوقٍ أن يَعُد ويَحسُبا[26]
ويَبْدَهُ[27] بالسُّقيا على غيرِ موعدٍ
فما هي الا لمحةٌ، وتَصبَبا
إلى أنْ جَلاها كالكَعاب[28] تَزَيَّنَتْ
لتُحسَدَ من أَترابِها او لتُخطَبا
كذلك لطفُ اللهِ في كلِّ مِحنةٍ
وإنْ حَشَدَ الدهرُ القُنوطَ وأَلَّبا
٭٭٭
ومَرَّتْ على سُمْرِ الخيامِ غمامةٌ
تَجُرُّ على صادٍ من الرملِ هَيدَبا[29]
نِطافٌ عِذابٌ رَشَّها الغيمُ لؤلؤاً
وتِبرا فما أَغنى وأزهى وأَعجَبا
حَبَتْ كُلَّ ذي رُوحٍ كريمَ عطائها
فلم تنسَ آراماً ولم تنسَ أَذؤبا[30]
وجُنَّتْ مهاةُ الرملِ[31] حتى لَغازلَتْ
وجُنَّ حَمامُ الأيكِ حتى لشَبَّبا[32]
وطاف الغمامُ السَّمْحُ في البِيد ناسِكاً
إلى اللهِ في سُقيا الظِّماءِ تَقَرُّبا
عواطلُ[33] مَرَّ المُزنُ فيهن صائغا
ففَضَّضَّ في تلك السهولِ وذَهَّبا
ورَدَّ الرمالَ السُّمرَ خضراً وحاكَها
سماءً وأغناها ووشَّى وكَوكَبا[34]
ورَدَّ ضُروعَ الشاءِ بالدَّرِّ حُفَّلاً[35]
لِتُرضِعَ حِملاناً جياعاً وتُحلَبا
وحَرَّكَ في البِيدِ الحياةَ وسِرَّها
فما هامدٌ في البيدِ إلا تَوثَّبا
ولاعَبَ في حالٍ[36] من الرمل رَبربا
وضاحَكَ في غالٍ من الوشي رَبربا
وجَمَّعَ ألوانَ الضياءِ ورَشَّها
فاحمرَ وردياً، وأشقرَ أصهبا[37]
واخضرَ بين الأيكِ والبحرِ حائراً
وأبيضَ بالوهْجِ السماويِّ مُشْرَبا
ولَوناً من السمراءِ، صِيغتْ فُتُونُهُ
بَياضاً، نَعَم، لكنْ بَياضاً تَعَرَّبا
أتدري الرُّبى أنَّ السماواتِ سافرَتْ
لِتَشهَدَ دنيانا فأَغفَتْ على الرُّبى؟
أَلُمُّ بكفَيَّ النجومَ وأنتقي
مُزَرَّرَها في باقتي والمُعَصَّبا[38]
دياري وأَهلي باركَ اللهُ فيهِما
ورَدَّ الرياحَ الهُوجَ أَحنى مِن الصَّبا[39]
وأُقسم أَنِّي[40] ما سألت بحبِّها
جزاءَ ولا أَغليتُ جاها ومَنصِبا
ولا كان قلبي منزلَ الحقدِ والأذى
فإني رأيتُ الحقدَ خَزْيانَ مُتعَبا
٭٭٭
تَغَرَّبَ عن مُخضَوضِّلِ الدَّوحِ بُلبلٌ[41]
فشَرَّقَ في الدنيا وحيداً وغَرَّبا
وَغَمَّسَ في العطرِ الإلهيِّ جانحاً
وَزَفَّ من النُّورِ الإلهيِّ مَوكِبا
تَحَمَّلَ جُرحاً دامياً في فؤادِهِ
وغنَّى على نايٍ[42] فأشجى وأَطربا
٭ للشاعر بدوي الجبل
حرّر النص وشرح غوامضه: عبدالله بن حمدان بن حمود الإسماعيلي




[1]  تصح في جيم جذوة الحركات الثلاث، وهي القبسة من النار، والجمع جِذا وجُذا.
[2]  الثغر الأشنب الرطب الرقيق العذب أبيض الأسنان جميلها، وفاعل التجلية ضمير يعود على الخيال.
[3]  السُهْد والسُّهاد نقيض الرقاد، وأما السَّهد فهو السكون هكذا قال صاحب مقاييس اللغة.
[4]  غوطتا دمشق الشرقية والغربية تحيطان دمشق بسوار من كل فاكهة تتمناها النفس، ورِياهما حسنهما بما تموران به من ري ورواء.
[5]  اللُّبانة الحاجة من غير فاقة ولكن من هِمَّة. يقال: قَضَى فلان لُبانته، والجمع لُبان، ويريد باللبانة طفله الذي سيأتي في البيت التالي.
[6] أسدِل وأسدُل كلاهما صحيح.
[7] الدَّلْهُ والدَّلَهُ: ذهابُ الفُؤاد من هَمٍّ أَو نحوه 
[8] تخفِق وتخفُق كلاهما صحيح.
[9]  الصليب الصلب من الرجال.
[10]  الغمر الكثير الغامر.
[11]  لولا زغاليل القطا: أزغلت القطاة فرخها إذا سقته مما شربت، أي لولا إطعام أطفالي، وهو أسلوب يذكر بقول الحطيئة (ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ..).
[12]  وتروى أقيته بالقاف أي مججته أعْقَيْت الشيء، إذا أزلته من فيك لمرارته، وفي المثل: لا تكن حُلواً فتُسْتَرطَ ولا مرًّا فتُعْقَى. والكلمة بالفاء أرشق وفي الأخلاق أسمح.
[13]  لِدة المرء تِربه المقارب له في السن.
[14]  نجم الصبح والمساء كوكب الزهرة ويطلق على الشيطان ولعله مراد.
[15]  الغيهب الظلمة الدامسة.
[16] غَوَّر غار وغاب وذهب إلى القاع ومنه الماء الغائر.
[17]  يشير إلى قول المجنون: ويبدي الحصى منها إذا قذفت به * من البرد أطراف البنان المخضب/ فأصبحت من ليلى الغداة كناظرٍ* مع الصبح في أعقاب نجم مغرِّب.
[18]  يعتِب ويعتُب كلاهما صحيح.
[19]  ولم تنقل عَريان بفتح العين من العُري.
[20]  الذُّل ضد العز ويعني ضد الصعوبة ولكن في المعنى الأخير يجوز أيضا كسر الذال.
[21]  الضن البخل بالشيء لنفاسته.
[22] جبل العلويين أو جبل الأنصارية أو جبال اللاذقية هي سلسلة من الجبال في سوريا والتي تمتد بمحاذاة الساحل السوري، تضم هذه السلاسل عشرات المدن ومئات القرى والبلدات والمزارع والمصايف التي تتبع لعدة محافظات سورية، وقد ولد الشاعر في إحدى قراه قرية ديفة باللاذقية سنة 1900.
[23]  قبر سعد الله الجابري مناضل وطني سوري ترأس الكتلة الوطنية التي قادت عملية تحرير سورية من الاستعمار الفرنسي ويعتبر أحد أهم زعماء النضال الذين قاموا بإعادة توحيد سورية بعد أن قسمها الفرنسيون إلى دويلات وتوجت ثمرة نضالهم بجلاء الفرنسيين عن التراب السوري عام 1946.
[24]  يقنط تصح بالحركات الثلاث.
[25]  يعذِر ويعذُر كلاهما صحيح.
[26]  يحسُب يعُدّ، أما بالكسر والفتح يظن.
[27]  البَده المفاجأة.
[28]  كَعاب الفتاة الناهد جمعها كِعاب وكواعب.
[29] الصادي العطشان والهيدب السحاب المتدلي كهدب الثوب.
[30]  الأذؤب جمع ذئب.
[31]  مهاة الرمل هي المها العربي أحد أربعة أنواع في العالم؛ ثلاثة منها في أفريقيا، والمها الأبيض في الصحاري العربية. انقرضت من الصحاري العربية في سبعينيات القرن الماضي وبقيت بضعة رؤوس في الأسر، فتدخلت حديقة حيوانات لندن وحديقة فينكس للحيوانات في أريزونا وتم تكثير هذه السلالة حتى أعيد توطينها في جدة الحراسيس بالمنطقة الوسطى من سلطنة عمان سنة 1982 ثم انتشرت في بقية مناطقها الطبيعية وقد تجاوزت خطر الانقراض لكن أعدادها لا تزال دون ال7000 رأس حول العالم.
[32]  حتى لغازلت، حتى لشببا: الأصل حتى إنها لغازلت، حتى إنه لشببا، واللام أفادت التوكيد وتخليص الخبر للحال، وإن أردتها للقسم فجميل جداً: حتى إنها والله لغازلت..الخ.
[33]  العواطل والعُطَّل والمفرد عاطل التي ليس عليها زينة.
[34] كوكبها أي أطال عيدان نبتها وأخرج زهرها ونَورها.
[35]  احتفال الضرع باللبن امتلاؤه، فالضرع حافل ويطلق على صاحبته، والجمع حوافل وحُفَّل.
[36]  الحالي مَن لبس الحَلْي.
[37] الأصهب ما ظاهره حُمرة وباطنه سواد، وإن خالط البياض حمرة وقعت صهبة.
[38]  هنا اجتمعت نجوم السماء بنجوم الأرض (النجم من النبات ما ليس له ساق بخلاف الشجر) المزرر المترابط منها فكأن له أزرار ولو كان شكلاً ويقابله المحلول، والمعصّب منها المطوي، فهو ينتقي في باقته ما يهوى.
[39]  الصَّبا ريح لينة من الرياح الأربع عند العرب، ورياحهم الدَّبور والجَنوب والشَّمال والصَّبا، ولكل منها صفات ونتائج ومواقيت.
[40]  يجوز بعد القسَم إنَّ وأنَّ ولو دخلت اللام في خبرها لما جاز إلا المكسورة.
[41]  يعني نفسه في مهجره.
[42] ناي هنا تصلح للمزمار وبالهمز للبُعد.


اقعدوا مع القاعدين/فاقعدوا مع الخالفين

جاء في سورة براءة {اقعدوا مع القاعدين} ثم جاء {فاقعدوا مع الخالفين} هل تتبين لك حكمة من هذا الاختلاف وأي التعبيرين أشد؟ كلا الآيتين يتضمن ال...