الأحد، 2 نوفمبر 2025

قصة فيها عبرة للشعراء والنقاد

قضية بلاغية  من «دلائل الإعجاز»، تنير الدرب للشعراء والنقاد، يعرض فيها عبد القاهر الجرجاني واحدة من أعمق القضايا اللغوية والبيانية، وهي إشكالية "لم يكد يفعل"، من خلال حكاية طريفة بين الشاعر ذي الرمة والقاضي ابن شبرمة، جعلها الجرجاني منطلقًا لتحليل دقيق لمعاني الألفاظ وخطر الأحكام الارتجالية.


 القصة ومحل الإشكال


أنشد ذو الرمة في الكوفة قصيدة فيها قوله:

 إذا غيّر النأيُ المحبين لم يكدْ

 رسيسُ الهوى من حبِّ ميةَ يبرحُ

فقال ابن شبرمة معترضًا: "أراه قد برح!"
أي إنه فهم من قوله "لم يكد يبرح" أن الهوى قد فارق.

فاضطرب ذو الرمة، وظن أن القاضي أصاب، فبدّل البيت إلى:

 إذا غيّر النأيُ المحبين لم أجدْ

رسيس الهوى من حب مية يبرحُ.

لكن والد الراوي، لما سمع الخبر، حكم بأن كليهما مخطئ:

 أخطأ ابن شبرمة في فهمه.
 وأخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره.
  وبيّن أن الصواب كما في قوله تعالى:
 ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾
 أي: لم يرها، ولم يقارب أن يراها.



 موضع الشبهة في "لم يكد"


جرى في كلام الناس أن يقولوا:
"ما كاد يفعل" و "لم يكد يفعل" في فعلٍ قد وقع فعلاً، لكن بعد عناء أو تردد.

مثل قوله تعالى:  ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾
 أي: فعلوا أخيرًا بعد تردّدٍ ومماطلة.


ومن هنا توهّم ابن شبرمة أن معنى "لم يكد يبرح" هو: برح بعد جهد.
لكن الجرجاني بيّن أن هذا ليس هو الأصل، وإنما هو استعمال عرفي حادث.

 
المعنى اللغوي الحقيقي لـ"لم يكد"

المعنى الصحيح في اللغة:

 أن الفعل لم يقع أصلًا،

 ولا قارب أن يقع،

 ولا ظُن أنه يمكن أن يقع.


فـ"كاد" في أصلها تدل على قرب وقوع الفعل،
فإذا نُفيت بـ"لم" صار معناها نفي المقاربة نفسها.
إذ من المحال أن يكون نفي المقاربة يوجب وقوع الفعل!
وإلا لكان معنى "ما قارب أن يفعل" هو "فعل"، وهذا تناقض.

 
متى تُستعمل "لم يكد" بمعنى "فعل بعد جهد"؟

إذا كان هناك مانع أو حال يُبعد وقوع الفعل، ثم زال المانع ووقع الفعل بعد مشقة،
فحينئذٍ يصح أن يُقال "ما كاد يفعل" أو "لم يكد يفعل" بمعنى "فعل بعد طول تردّد"،
كما في قوله تعالى:  ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾.

أما إذا لم يقع الفعل أصلًا، ولا ظُن وقوعه،
فلا يجوز إلا أن تُلزم ظاهر اللفظ: أي لم يقارب أن يكون.

 
المعنى الدقيق في بيت ذي الرمة

البيت على التحقيق يعني:

 إذا تغيّر الناسُ عن عهود الحب،

 فإني لا يخطر ببالي أني قد أبرح هوى مية،

 ولا أقارب أن أبرح، فضلًا عن أن أبرح فعلًا.


فهو يصف ثبات الحب، لا زواله.
الهوى في قلبه راسخ ثابت، لا يُظن عليه الفتور أصلًا.

 
توضيح معنى الآية:  ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾

قال المفسرون:  "لم يرها، ولم يكد"
 أي: لم يقارب أن يراها أصلًا.


ولو كان "لم يكد" يوجب وجود الرؤية بعد الجهد،
لكان معنى الكلام: لم يرها ورآها!، وهو محال.
 

لمحة نحوية: "لم يكد" في جواب "إذا"

ذكر الجرجاني أن الفعل الماضي إذا وقع جوابًا لـ"إذا"
يكون معناه مستقبلًا.
ففي قوله:
 
إذا خرجت لم أخرج
 النفي للمستقبل، لا للماضي.


فكذلك قول الشاعر:
 
إذا رام نهضًا بها لم يكد / كذي الساق أخطأها الجابر
 المعنى: إذا أراد النهوض بها، لا يكاد ينهض، أي لا ينهض ولا يقارب أن ينهض.


فهذا دليل آخر على أن "لم يكد" لا تدل على الفعل بعد الجهد، بل على نفيه التامّ.


قصة فيها عبرة للشعراء والنقاد

قضية بلاغية   من «دلائل الإعجاز»، تنير الدرب للشعراء والنقاد، يعرض فيها عبد القاهر الجرجاني واحدة من أعمق القضايا اللغوية والبيانية، وهي إشك...