جاء في سورة براءة {اقعدوا مع القاعدين} ثم جاء {فاقعدوا مع الخالفين} هل تتبين لك حكمة من هذا الاختلاف وأي التعبيرين أشد؟
كلا الآيتين يتضمن القعود (اقعدوا)، فالآية الثانية فيها معنى إضافي.
في معنى (الخالفين) يقول الرازي:
[ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ﴾ ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ الخالِفِ أقْوالًا:
الأوَّلُ: قالَ الأخْفَشُ وأبُو عُبَيْدَةَ: الخالِفُونَ جَمْعٌ، واحِدُهم خالِفٌ، وهو مَن يَخْلُفُ الرَّجُلَ في قَوْمِهِ، ومَعْناهُ مَعَ الخالِفِينَ مِنَ الرِّجالِ الَّذِينَ يَخْلُفُونَ في البَيْتِ، فَلا يَبْرَحُونَ،
والثّانِي: أنَّ الخالِفِينَ مُفَسَّرٌ بِالمُخالِفِينَ. قالَ الفَرّاءُ: يُقالُ: عَبْدٌ خالِفٌ وصاحِبٌ خالِفٌ إذا كانَ مُخالِفًا. وقالَ الأخْفَشُ: فُلانٌ خالَفَهُ أهْلُ بَيْتِهِ إذا كانَ مُخالِفًا لَهم. وقالَ اللَّيْثُ: هَذا الرَّجُلُ خالِفَةٌ، أيْ: مُخالِفٌ كَثِيرُ الخِلافِ، وقَوْمٌ خالِفُونَ، فَإذا جَمَعْتَ قُلْتَ: الخالِفُونَ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: الخالِفُ هو الفاسِدُ. قالَ الأصْمَعِيُّ: يُقالُ: خَلَفَ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ يَخْلُفُ خُلُوفًا إذا فَسَدَ، وخَلَفَ اللَّبَنُ وخَلُفَ إذا فَسَدَ.
وإذا عَرَفْتَ هَذِهِ الوُجُوهَ الثَّلاثَةَ، فَلا شَكَّ أنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ حَمْلُهُ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنها؛ لِأنَّ أُولَئِكَ المُنافِقِينَ كانُوا مَوْصُوفِينَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الصِّفاتِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الرَّجُلَ إذا ظَهَرَ لَهُ مِن بَعْضِ مُتَعَلِّقِيهِ مَكْرٌ وخِداعٌ وكَيْدٌ، ورَآهُ مُشَدَّدًا فِيهِ مُبالَغًا في تَقْرِيرِ مُوجِباتِهِ، فَإنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَقْطَعَ العَلَقَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، وأنْ يَحْتَرِزَ مِن مُصاحَبَتِهِ.] اهـ
وهذا التوسع الذي ذكره الإمام الرازي في معنى الخالف يصح عندما يكون الحديث عن المنافقين خاصة وإلا فقد سمّى القرآن ذوي الأعذار من نساء وشيوخ وأطفال {الخوالف}، ولا مشاحة إذ تتسع المعاني وتضيق وتختلف حسب السياق كما هو معلوم، نحو ما جاء في القرآن من معاني الدِّين والفتنة والإحصان والظن والإصر والأسف والجعل والإنزال والحِجر والحميم والسلام والطائر والقسط والمولى والمن والصدقات. وكما قال أبو الدرداء رضي الله عنه (إنك لن تفقهَ كلَّ الفقه حتى ترى للقرآن وجوها).
لماذا اذن في الثانية غلّظ بالجمع بين التخلف والقعود؟
والله أعلم لأن الآية الأولى (آية 46) بداية الحديث عن القاعدين عن القتال فلما فصلهم عن جملة المؤمنين ممن وقع منه تقاعس استفاض -في قرابة ثلاثة أرباع الحزب- في الحديث عن أعمال المنافقين الكفرية ونواياهم الخبيثة وأحوالهم النفسية الفاسدة، من جبن خسيس وكره الخير للمؤمنين وسخط على عطايا الله وأذى للنبي والمؤمنين وكفر بالله ورسوله واستهزاء بالحق واختلاق الأعذار ونكث العهود ولمز المطوعين بالصدقات ثم ذكر فرحهم بهذا التخلف، {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله… آية 81} فناسب أن يختم برد الأعجاز على الصدور فقال {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين… آية 83}.